عن “صك الانتداب” الجديد
بعبارات جميلة ومنمّقة، وبتضمين مقصود، وملغوم، لبنود منطقية ومطلوبة من قبل السوريين أنفسهم، حدّدت “المجموعة المصغّرة من أجل سورية”، كما تسمي نفسها، مستقبل سورية بأكمله، بما فيه نظامها السياسي والاقتصادي والدستوري وشكل وطبيعة علاقاتها الخارجية وتموضعاتها الإقليمية، عبر “وثيقة”، ما “يجب”، وكيف “ينبغي”، على السوريين فعل، أو عدم فعل، أي أمر في المسيرة السياسية العتيدة، وأكثر من ذلك، إلى أين يجب أن تصل هذه العملية بالنهاية، أي أن “المجموعة” حدّدت المدخلات والمخرجات مما لا يبقي للسوريين سوى مهمة التنفيذ التام دون إبداء أي رأي أو تذمّر، لأن “الوثيقة” لا تحفل برأيهم أصلاً، باعتبارهم من “العموم” الذين لا يُقصد منها أن تكون لهم، كما نصّت في مقدمتها، وأضمرت في بنودها المتعدّدة.
بهذا فإن استبعاد “العموم” يعني، بالتبعية، استبعاد مبدأ حقهم الطبيعي بتقرير مستقبلهم، عبر “عملية سياسية بقيادة سورية”، كما تنصّ قرارات الأمم المتحدة التي وافق عليها أطراف المجموعة ذاتهم، وبالتالي لا تكون “الوثيقة”، في حقيقتها، سوى صك انتدابي سافر، وفقراتها، رغم مشروعية بعضها، ليست إلا شروط استسلام كامل يفرضها طرف منتصر على آخر مهزوم، وتلك أولى الأخطاء، أو الخطايا، الكثيرة التي تحفل بها هذه الوثيقة، بدءاً من الشكل والأطراف المشاركة في صياغتها، وصولاً إلى المضمون.
والحال فإن الفكر “الانتدابي” في هذه الوثيقة يتجاوز الروحية إلى التصريح العلني، فهي تبدأ، وذلك أمر يوحي بالكثير، بتحديد سياسة وعلاقات سورية الخارجية، من تصادق ومن تحارب، والأهم حماية “إسرائيل” عبر بند “الكف عن تهديد الدول المجاورة”، ولا تنتهي عند التحكّم في الشكل الدستوري والسياسي للدولة السورية القادمة، وموازين القوى داخلها عبر الكلام عن صلاحيات الرئاسة وصلاحيات رئيس الوزراء، و”تخويل السلطات.. على أساس مناطقي”، وتسمية منطقة جغرافية معينة دون غيرها لإشراك ممثليها في الإصلاحات في تبنّ واضح للتقسيم، والأخطر هو بند المصادقة على نتائج الانتخابات والاستفتاءات خلال الانتقال إذا لبّت الانتخابات المعايير المطلوبة، ثم تتوّج ذلك كله بتهديد واضح: لن يكون هناك إعادة إعمار دون “إرضاء الدول المانحة المحتملة” وهو “رضى” لن يتمّ، بكل تأكيد، ما لم يتحقق “انتدابهم” الفعلي على سورية الغد.
لكن لـ”الوثيقة” مفارقاتها المضحكة، فـ”المجموعة المصغّرة” التي صاغتها لا تتقيّد ببنودها، لا بسياستها الداخلية ولا الخارجية، فأغلب دولها “راعية للإرهابيين، وتؤمن بيئة آمنة لهم” بعكس ما تطالب به الوثيقة، وبعضها يملك “أسلحة الدمار الشامل”، وأغلبها “يهدد جيرانه”، كالسعودية، بل العالم بأسره، كأمريكا، وأنظمتها تحمي “مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، ولا تتعاون مع المجتمع الدولي” في مساءلتهم، وما إلى ذلك مما يعرفه الجميع.
بيد أن ما سبق من ملاحظات على “الوثيقة” وكتّابها، لا يعني إننا، كسوريين، لا نعي جيداً أن صوغ الدستور، وإن كان يدخل في صميم الصراع السياسي على سورية، إلّا أنه أيضاً أس بناء مستقبلنا المنشود، لذلك نريد ونطالب، جميعاً، بدستور عصري لبناء دولة مؤسسات وقانون، دولة مواطنين أحرار متساوين، مع آليات فعّالة وواضحة لتحقيق ذلك، وهنا تماماً يكمن مقتل أطراف “المجموعة المصغّرة” وغيرها من الجهات المعادية لسورية، وعندها، تحديداً، يمكن إعلان النصر الحقيقي لسورية وشعبها.
قصارى القول: يأتي هذا “الصك الانتدابي” السافر كمحاولة جديدة لاغتيال دولة وشعب كامل، لكنّ الواقع والوقائع تقول علناً: إنه “صك” مفوّت مفارق للواقع، بلغة المثقفين، “صك” يأتي من أجواء عام 2012 أو 2013، ولكن ليس اليوم، لأن قطار التاريخ لم يعد يسير على المسار الأمريكي وحده، وللمعركة في سورية وعليها دور في ذلك.. والأيام فيصل.
أحمد حسن