أردوغان.. وبدء العد العكسي
كعادته في التلاعب بالحقائق، والاجتهاد في تسجيل الانتصارات الخلّبية، سارع أردوغان لتسويق “اتفاق إدلب” على أنه فوز للدبلوماسية التركية. الطاغية، الذي يجد نفسه منذ أن تخلى عنه الحلف الأطلسي عالقاً لوحده في المصيدة السورية، يكابد مشاعر الحصار والفشل، ويتخبّط في متاهة مشكلاته الداخلية والخارجية، معلّقاً على خيوط واهية من انتصارات كلامية، ولا شيء غير الكلامية، يراهن – لتعاسة حظه – على تحصيلها من حلفائه وأعدائه في وقت واحد. يراكم أردوغان النجاحات تلو النجاحات، ولكن عالمه يزداد إشكالية وتعقيداً، وتتفاقم وتتعدّد أزماته، وهو لا يجد حتى الآن أفضل من حالة الإنكار التي تروّج لها زبانيته الإعلامية بأنها قدرة عجائبية على المناورة ومهارة إعجازية في القفز على الحبال الإقليمية والدولية. ولكنه بائس، بائس حقاً هذا الأردوغان الذي لا يرى فارقاً أبداً بين تعلية الصراخ وبين الانبطاح وطلب الاسترحام بطريقة مخجلة ومخزية لا تليق إلا بإخواني عتيق متمرّس بنفاقه.
يروّج أردوغان أنه ارتقى بدوره درجة إضافية عندما تمكّن من محاورة الروس وجهاً لوجه – وبعيداً عن آليات أستانا الجماعية – في سوتشي؛ هو يبعث برسائل عاجلة وخطيرة لقطاعات جديدة من الإرهابيين في إدلب مفادها أنه انتزع خلال لقائه الأخير مع بوتين ورقة تشميلهم، وأنه بات بالوسع اليوم الحديث، بطلاقة وعلانية، عن “معارضة مسلحة معتدلة” تدين له رسمياً بالحماية – وفي المحصلة الأخيرة بالطاعة! – بعد أن “نجح” في إحداث تعديل إجرائي على وضعية الضامن “صفته في تفاهمات أستانا”، بحيث زجّ بمجموعات إضافية من الإرهابيين المعلنين تحت مظلة أستانا في الطريق إلى قطف الاعتراف بهم كـ “معارضة” على الطاولة، سوف تشكّل له بالطبع نوعاً من جائزة نهاية الخدمة بعد سنوات من التقلّبات والمؤامرات والتحالفات الدورية مع الإرهاب الداعشي والنصروي، وسوف تكون، بالتوازي، البيادق الرخيصة التي يتهيأ لإخواني عثماني أن بوسعه استخدامها للتدخّل في سورية العلمانية المعروفة بنزعتها الوطنية والقومية.
ولكن أردوغان، الذي لم يعد يعنيه من قواعد الحكم إلا الاستئثار والاستمرارية، ولم يعد يفقه من السياسة إلا المداورة وشراء المزيد من الوقت والتشاطر في الكذب، ماض في أحلام يقظته؛ وكما كان انخراطه في مسار أستانا شبه إجباري، على خلفية إحباطه العميق من حلفائه، وخشيته من ارتدادات عكسية ثقيلة سوف تتحمّلها تركيا وحدها على خلفية رهاناته الطائشة والإجرامية، ها هو اليوم يغوص مجدداً في المفاهيم المغلوطة والحسابات الخاطئة، محاولاً إضفاء طابع مؤبّد على اتفاق مرحلي ومؤقّت، هدفه – للمرة الألف – إنقاذ أردوغان من نفسه، وإعطائه فرصة جديدة للخروج بما يحفظ له ما تبقى من كرامة سياسية وشخصية لطالما هدرها، على الأخص، في الاستخدام المزدوج للمجموعات الإرهابية المحلية والدولية، وفي لعبة مكشوفة قدّم فيها تعهدات متناقضة ومتعاكسة، ومثّل دور القاتل والضحية في وقت واحد. لقد تحوّل أردوغان الفاشل إلى ضرورة سياسية لتجاوز قطوع الإرهاب المموّل والمدعوم خليجياً وأطلسياً وتركياً في سورية، وتفكيك الكثير من تداعيات اللجوء القسري الذي يندرج في إطار استراتيجيات شريرة تدميرية، اقتصادية وديموغرافية، مخطط لها ولا تمّت بأدنى صلة للمعايير الإنسانية.
“اتفاق إدلب” مرحلة جديدة ونوعيّة على طريق العملية الاستراتيجية في تطهير سورية من الإرهاب واستعادة وحدة كامل الأراضي السورية، وهما الهدفان المصيريان اللذين يرفض أي سوري المهادنة فيهما مهما عظمت التضحيات، ومهما كلّف ذلك؛ وإذا كان هناك من يخيّل له أن الوقت مفتوح إلى ما لانهاية، فإن الأجدى به أن يدرك بالضبط أن الكرة باتت اليوم في ملعبه حصرياً، وأن العد العكسي بدأ، وأن هامش المناورة يضيق، وأن عليه أن يتحمّل مسؤوليته.. مسؤولية تركيا في وقف دعم الإرهاب وتسلل الإرهابيين، والاستقواء بهم على طاولة الحوار السياسي، وأن عليه أن يكف عن التلطي خلف جبهة النصرة والإرهاب “الجهادي” لتحقيق مطامع توسعية إقليمية.
الوقت يضيق، والتشاوف الأردوغاني لا يذكّر حتى الآن إلا بالعجرفة السعودية الشهيرة بتطبيقاتها التخريبية والتدميرية، ولكنها الأعجز عن رسم مسار إلى خطوة إيجابية واحدة؛ إنها رحلة كئيبة ومتمادية من إنغلاق الفهم والانفصال عن الوقائع، والتي عادة ما تسم أسوأ مراحل الغيبوبة السياسية، وتعبّر عن حالة من أفظع أشكال الجمود، الذي غالباً ما ينتهي بانفجار شامل ومفاجئ.
بسام هاشم