“ابن باديس” رواية سينمائية فصولها الاستعمار واليهود والفتنة
“تستطيع فرنسا أن تقضي على حياتنا المادية بقتلنا أو نفينا، لكنها لاتستطيع القضاء على حياتنا الروحية وعلى عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا”.
هذه الكلمات من أقوال العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس والتي تضمنها فيلم ابن باديس – بالتعاون بين وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما والسفارة الجزائرية- بتجسيد سيرته الذاتية بتوقيع المخرج السوري باسل الخطيب، تزامن عرضه في سينما سيتي في دمشق مع الذكرى الستين لإقامة حكومة الجزائر المؤقتة عام 1958، ليتصدى هذا الفيلم إلى النضال بالكلمة والأخوة والوحدة والتسامح والعدل، ليجد المتلقي نفسه إزاء رواية سينمائية رائعة تتوقف عند فصول شكّلت منعطفات في حياة ابن باديس وفي تاريخ الجزائر والأمة العربية.
وجع الرسالة
منذ اللحظات الأولى تبدو رومانسية الخطيب المباشرة مع انسدال المطر وصوت نغمات البيانو التي تشير إلى تتالي الزمن، ليمرر رسالته الموجعة من خلال الحبل الذي يقيد الجزائريين ويسوقهم إلى التجنيد الإجباري لخدمة الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، ليغدو هذا المشهد أشبه بافتتاحية تلخص مئة عام من الطغيان والظلم الذي تعرض له الشعب الجزائري، ليعود الخطيب إلى المحور الأساسي للفيلم منذ ولادة ابن باديس في منزل والده الكبير في قسنطينة 1889 بالضرب على الطبل الكبير وإعلان ولادة هذا العلامة الذي دعا إلى توحيد صفوف الجزائريين، والوقوف في وجه الفرنسيين، وخدمة الدعوة الإسلامية بتعليم أصول الدين الصحيحة.
لعبة الاستعمار
مضى الخطيب بفيلمه بمسار التتابع الزمني وهو البارع بالانتقالات الزمنية، وبالتسلسل لزمن واحد من البداية حتى النهاية لحياة ابن باديس بالسرد السينمائي المباشر، إلا أنه من خلال هذا السرد مرر الكثير من الرسائل وركز على لعبة الاستعمار بإثارة الفتن والعمل على الانقسامات والاغتيالات، هذه اللعبة التي تنسحب على جميع الدول العربية التي وقعت تحت نير الاستعمار، واللافت أيضاً هو ربطه بين التاريخ الجزائري وبين العروبة والقومية العربية في تناول الرسائل بين ابن باديس مع صديقه، والتطرق إلى التهويد وإقامة وطن لليهود في فلسطين، ليصل الخطيب إلى الرسالة الهامة بإيضاح دور اليهود بمحاربة الجزائريين وتعاملهم مع المستعمرين بمحاولة اختراق حرمة المقدسات كما بدا في مشهد اليهودي داخل المسجد، وتتضح الرسالة أكثر في المشهد الصريح في مواجهة ابن باديس أحد الحاخامات اليهود بما يقوم به اليهود بقتل النساء والأطفال والشيوخ المسلمين.
عدم التشدد الديني
الأمر اللافت التقاطع الواضح والمقاربة بين دمشق والقسنطينة من حيث الحياة الدينية بالمساجد والزوايا والترنيم بالإنشاد الديني وجلسات الذكر وقراءة الشعر الصوفي من قبل ابن باديس، وفي الوقت ذاته تمرير رسالة بشكل غير مباشر عن عدم التشدد الديني عند العلامة ابن باديس.
برع النجم الشاب نضال سحيري الحامل الرئيس في الفيلم بأداء شخصية ابن باديس وأظهر اتزانه وهدوءَه وقوته وكبرياءَه وضعفه، وتمكن من تأدية دوره الخطابي والقيادي بالمؤتمرات والاجتماعات ورده القوي في كل لقاءاته مع الفرنسيين، ومما ساعد على إنجاح الشخصية تمكن سحيري من اللغة العربية بالقراءة الصحيحة مع التشكيل والنطق الصحيح لمخارج الحروف والإيحاء بعظمة حضور العلامة الشيخ لاسيما في قراءة القرآن الكريم، وفي الوقت ذاته استخدام اللغة الفرنسية مع غيره من الممثلين.
المطالبة بالحقوق
ومضى السرد السينمائي منذ ولادته إلى سفره لطلب العلم في جامع الزيتونة في تونس ومن ثم العودة إلى الجزائر ليرى ابنه إسماعيل الذي لايعرفه، ليبدأ بالتعليم بالمساجد ونشر الدعوة الإسلامية والمطالبة بالحرية، ومن هنا تبدأ معركته مع الفرنسيين لاسيما حينما بدأت صفوف الجزائريين تلتف حوله وقد أشار إلى ذلك المخرج بمشهد الأقدام المتسارعة إلى حضور مجلسه، المنعطف الهام بالفيلم هو ذهابه إلى باريس للمشاركة بالمؤتمر والمطالبة بحقوق الجزائريين باعتماد اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية، وأن تعامل صحافتها كما تعامل الصحافة الفرنسية، وتعطى حرية التعليم، وتسلم المساجد للمسلمين وتتولى أمرها جمعيات دينية والعمل وفق القانون الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة، وتنظيم القضاء.
تجاوز الانقسامات
وأظهر المخرج التضييق الذي تعرض له ابن باديس بمنعه من التدريس بالمساجد وإغلاق صحيفة المنتقد وغيرها، والضغط على والده لإقناعه بإغلاق جمعية الإخاء، ومحاولة اغتياله.
غموض حياته الخاصة
وأفرد المخرج مساحة لجوانب خاصة من حياته عبر علاقته بزوجته ويخضع هذا لتفسيرات فربما عمله بالدعوة واتجاهه نحو الصوفية أبعده عنها إذ طلبت الطلاق لإهماله لها، لاسيما أنه لم تظهر امرأة ثانية في حياته، وربما لم يشعر تجاهها بأية مشاعر، وموت ابنه الوحيد إسماعيل وهو على ظهر الحصان ليكرر المخرج هذا المشهد المؤثر، وخوفه على جوهرة الفتاة الصغيرة التي تبيع بالسوق لرعاية أسرتها ومعرفته بتفاصيل حياتها وبقاء والدها مع أمها المقعدة، وطلبه انضمام جوهرة إلى صفوف التعليم مع الإناث والإنفاق على الأسرة، ليدخل المخرج من خلال هذه الحادثة خطاً درامياً آخر لنستشف الحبّ الوجداني الذي تكّنه جوهرة للعلامة، والإثارة بالمشهد الذي يجمع بين زوجته وجوهرة حينما زارتها ورغم مناداة زوجته لها”يا ابنتي” إلا أن نظرات الغيرة كانت ترسل إشارات واضحة، لكن بقي هذا الحب في أعماق جوهرة حتى بعد طلاقه زوجته ومقابلتها زوجته بالسوق مصادفة، واستسلام زوجته واقتناعها بأن هذا الحل هو الأفضل لهما.
قلبي في قلبك
وتأتي النهاية الحزينة بالمشاهد الأخيرة والمؤثرة بتركيز المخرج على كوب الحليب ومن ثم مرض العلامة وموته في إشارة إلى قتله مسموماً، لتبقى رسالته الخالدة “أيها الشعب الجزائري الكريم: يدي في يدك، وقلبي قلبك، وعقلي عقلك، وروحي روحك” ويبقى هذا الفيلم من أجمل روائع السينما العربية ووثيقة تاريخية، والأهم أنه عرّف الكثيرين بالعلامة الجزائري الشيخ عبد الحميد بن باديس وبدوره الديني والوطني.
ملده شويكاني