الإرهاب بالاستيطان: جريمة تبدأ بإسقاط أوسلو
د. رفعت سيد أحمد
كاتب وباحث من مصر
قصّة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، تؤكّد أننا إزاء إرهاب مُمنهَج من قِبَل دولة عدوانية مزروعة عبر التآمر الدولي الذي لايزال يحميها. إن هذا الإرهاب الاستيطاني ليس منفصلاً عن مجمل إستراتيجية العدو لاحتلال فلسطين، وفرض الإرهاب الدموي على شعبها، وأحد أبرز وسائلهم في ذلك هو الاستيطان، والذي يعني زرع أرض فلسطين بمئات المستوطنات المبنية على مفارق طُرق، وعلى مواقع إستراتيجية تحول دون التواصل الجغرافي لفلسطين، وتؤدّي إلى تهديد وإزالة الهوية العربية للشعب الفلسطيني، وعزله في كانتونات مُتباعدة، ولعلّ في مُتابعة مراحل وتاريخ الاستيطان وأهدافه الخبيثة، ما يؤكّد مخاطره على فلسطين البشر والأرض والقضية.
إن الحقائق الجارية اليوم من قِبَل سياسات الاستيطان الإسرائيلي على أرض فلسطين العربية، تؤكّد أننا أمام جريمة حرب بكل ما تعنيه من معانٍ ودلالات، فالاستيلاء على أرض الغير وطردهم منها، بل وفي الغالب قتلهم فيها، ثم تجريف بيوتهم وحقولهم وزرع مستوطنين بديلاً عنهم فوق هذه الأرض، يُعدّ جريمة أقسى في فعلها من الجرائم التي تُرتَكب إبان الحروب المسلّحة، فالأبعاد النفسية والأخلاقية والسياسية هنا أشدّ إيلاماً مما هي في حال الحرب المسلّحة، والحقائق التي تُبني على الأرض أشدّ مرارة من تلك التي تخلّفها الحرب المسلّحة.
إن جريمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين اليوم في عام 2018 زادت وتعقّدت في أجواء ما سُمّي بـ “الربيع العربي”، واقترب عدد المستوطنات في الضفة الغربية من 300 مستوطنة رئيسية فضلاً عن 250 موقعاً استيطانياً عشوائياً آخر. إن هذه المستوطنات تقضم حوالي 50% من مساحة الضفة الغربية ويقطن فيها نصف مليون “إسرائيلي”، أقيمت بيوتهم ومستوطناتهم بطُرق التوائية غير شرعية مثل الكيان الصهيوني ككل، والذي جعل من فلسطين كلها مستوطنة كبيرة غير شرعية، يستلزم لمواجهتها، المقاومة المسلّحة طويلة المدى وليس فحسب المقاومة السلمية، لأننا وبصراحة إزاء حُكم عنصري بامتياز، ولنتأمّل قانون القومية “الإسرائيلي” الأخير ودلالاته الإستراتيجية، وهو حُكم يُقام فوق وطن يلفظه، ومحيط عربي وإسلامي يقاومه رغم مُهادنات الحُكّام وتبعيّتهم.
يُحدّثنا التاريخ أن الاستيطان الصهيوني قد مرّ بأربع مراحل، وما نعيشه اليوم هو المرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل الاستيطان وفيها :
المرحلة الأولى: بدأت منذ انعقاد مؤتمر لندن عام 1840 بعد هزيمة محمّد علي، واستمرّت حتى عام 1882، وكانت هذه المرحلة البدايات الأولى للنشاط الاستيطاني اليهودي، إلا أن مشاريع هذه المرحلة لم تلق النجاح المطلوب بسبب عزوف اليهود أنفسهم عن الهجرة إلى فلسطين، والتوجّه إلى الولايات المتحدة الأميركية أو الانخراط في مجتمعاتهم، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة اللورد شافتسبوري، واللورد بالمرستون، ومونتفيوري.
المرحلة الثانية: بدأت عام 1882 واستمرّت حتى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، وفي هذه المرحلة بدأ الاستيطان الفعلي في فلسطين، وشهدت الموجات الأولى والثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين خصوصاً من أوروبا الشرقية وروسيا، ومن أبرز نشطاء هذه المرحلة لورنس أوليفانت، وروتشليد، وهرتزل، وفي هذه المرحلة بدأت المؤتمرات الصهيونية العالمية وأسّست المنظمة الصهيونية العالمية.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي هذه المرحلة تم تكثيف عمليات استملاك اليهود للأراضي الفلسطينية، وتدفّق الهجرة اليهودية، حيث شهدت هذه المرحلة الموجات الثالثة والرابعة والخامسة.
المرحلة الرابعة: بدأت منذ إعلان قيام دولة “إسرائيل” عام 1948 حين استولوا على 77% من مساحة فلسطين والتي شُرّد أهلها وذُبحوا ذبحاً، وصولاً إلى العام 1967، وفيه تمكّنت “إسرائيل” من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوافُد المهاجرين اليهود بكثرة ليصلوا إلى قرابة الـ 5 ملايين مستوطن.
أما المرحلة الخامسة: فهي التي نعيشها اليوم والتي للأسف قام بها فريق من الفلسطينيين بمساعدة العدو الصهيوني بزيادة وتيرة الاستيطان، وكان هذا الفريق من دُعاة التفاوض والحلول السلمية والذين ازداد عددهم للأسف بعد ثورات “الربيع العربي”، كان ولايزال دور هذا الفريق هو التغطية على الاستيطان، وإعطائه شرعية من خلال الإصرار على المفاوضات التي لا توصل إلى نتيجة، الأمر الذي دفع العدو لمزيد من زرع المستوطنات في ظل اتفاق أوسلو عام 1993 ومفاوضاته المستمرة طيلة 25 عاماً تم خلالها، وبغطاء سياسي من أصحاب هذا الاتفاق، زرع قرابة الـ 100 ألف مستوطن في الضفة الغربية. بل إن الاستيطان زاد في عهد نتنياهو أربعة أضعاف عما كان في الأعوام السابقة، وفق أحدث تقرير للمنظمات الصهيونية ذاتها ومنها “حركة السلام الآن الإسرائيلية”، إننا إذن وفي أجواء السلام الوهمي هذا، أمام جريمة كبرى تُرتَكب في حق الشعب الفلسطيني، وبمساعدة فريق من أبنائها، إنها جريمة الاستيطان التي هي ذبح مُنظّم لفلسطين، الأرض، والبشر، والقضية!!.
إن جريمة الاستيطان، في كافة أرجاء فلسطين، سواء الخاضعة مباشرة للاحتلال أو تلك المُحاصَرة عبر المعابر المُغلقة مثل قطاع غزّة تحتاج لمواجهتها، إلى إستراتيجية للمقاومة نقترح أن تتضمّن الآتي:
أولاً: المقاومة بكافة أنواعها، وهي لكي تُسمي مقاومة لابدّ أن تبدأ بالوقف الفوري لهذا العبث السياسي والتاريخي الذي يُسمّى خيار المفاوضات واتفاق أوسلو، والذي بإجماع الخبراء الفلسطينيين والعرب، وفّر غطاء كثيفاً من الشرعية لهذه لمستوطنات، التي يُسمّيها شعبنا الفلسطيني ومعه حق المُغتصبات وإسقاط هذا الاتفاق أصبح اليوم وبعد تنامي وتيرة الاستيطان والعدوان وتعذيب الأسرى، 6 آلاف أسير وأسيرة، يُعدّ ضرورة وطنية وأخلاقية وسياسية.
ثانياً: لوقف الاستيطان إذا اتفقنا على أنه جريمة حرب، وهو بالواقع المُعاش والقانون كذلك، فإن الرد الأساسي عليه يكون عبر تصعيد المقاومة المسلّحة ضدّه، وهذه المقاومة أضحت في إمكان قوى المقاومة الفلسطينية التي أربكت العدو الصهيوني أثناء سلسلة الاعتداءات الأخيرة على غزّة واستطاعت أن تصل بصواريخها “غراد وفجر وغيرها” إلى تل أبيب ذاتها، ومن يصل إلى تل أبيب يستطيع أن يصل وبقوّة أكثر إلى أية مستوطنة صهيونية في الضفة الغربية.
ثالثاً : لابدّ وأن يُصاحب إسقاط خيار المفاوضات، وتصعيد المقاومة المسلّحة، إعادة اللحمة الوطنية عبر المُصالحة الواسعة على أساس خيار المقاومة وليس خيارات التسوية البائسة، وبناء الوحدة والمُصالحة الوطنية يحتاج إلى إخلاص النوايا وإدراك الخطر، والبُعد عن أجندات دول وحكومات الأقاليم ومخطّطاتها لبناء شرق أوسط جديد بقشرةٍ إسلاميةٍ، شرق أوسط تعقد فيه الصفقات باستخدام ورقة فلسطين ولعلّ ما يجري في بعض العواصم العربية هذه الأيام مع الفصائل الفلسطينية تحت اسم المُصالحة يحتاج إلى تأمّل وحذر شديدين، إن صفقات الحُكم لمرحلة ما بعد ما يُسمّى بـ “ثورات الربيع” العربي تستهدف من جملة ما تستهدفه إنهاء وتضييع فلسطين بالكامل مقابل إعطاء بعض الجماعات والتيارات السياسية فرصة حُكم بلادها، كما جرى مع تجربة حُكم “الأخوان المسلمين” الفاشل في مصر عامي 2012-2013، إن الهدف كان ولا يزال هو إضاعة فلسطين وإسقاطها بالكامل، فإذا لم تقم المُصالحة والوحدة على خيار المقاومة من أجل فلسطين فلا خير فيها وسيزدهر الاستيطان وينمو للأسف الشديد.
رابعاً: إن المقاومة المسلّحة لجريمة الاستيطان واقتلاع البشر من أرضهم وتاريخهم، لا تعني الاستغناء عن وسائل النضال السلمي والقانوني الدولية والإقليمية، وفي أيدي الفلسطينيين مئات الوثائق والحقائق الدامِغة التي ترجّح انتصارهم القانوني، وإلى جوارهم تقف عشرات المواثيق والاتفاقات الدولية، لنذكر فقط المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تُتيح محاكمة المستوطنين كمًجرمي حرب، إن انتصار أهل فلسطين حتمي إن هم دخلوا بقوّة هذه المعركة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهي معركة نبيلة تستطيع، بل يجب، أن تشارك فيها كافة منظمات المجتمع المدني الدولية، لأننا أمام حقوق تُمتهَن وأراض تُغتصَب، وأوطان تضيع، وهي تحديات تفرض على الشرفاء في تلك المنظمات والهيئات الدولية دوراً جديداً وهم قادرون بالفعل عليه.
وبعد.. إن الاستيطان الصهيوني في فلسطين العربية، ليس فحسب جريمة ضد الإنسانية، ولا فقط جريمة حرب بالمعنى القانوني للكلمة بل هو أيضاً وبالأساس جريمة ضد التاريخ، ومَن يقف معها يقف ضد التاريخ وهو حتماً سيخسر، وستنتصر فلسطين التي نعرفها ويعرفها تاريخنا العربي الممتد لآلاف السنين، إنها وباختصار دال ومعبر؛ فلسطين التي من البحر إلى النهر؛ الطاهرة من دَنَس الاستيطان وعنصريته.