دعوات الشّحادين مستجابة
لم تسعفني الكلمات حينما وقفت أمامنا أنا وصديقتي، تطلب نقودا وتستعطف قلوبنا، وذرفت عينيها الدّموع حينما ذكرت لنا أن زوجها مفقود، وأن طفلها الصغير مريض، وبحاجة إلى عملية مستعجلة، وأنها “مقطوعة من شجرة” فلا أهل ولا معيل ولا سند، وقبل أن تنهي كلماتها، مدت صديقتي يدها وناولتها مبلغا صغيرا من المال، قائلة: الله يشفيلك ابنك ويكون بعونك.
خجلت من صديقتي، وفعلت مثلها، ولم تترك الشحادة دعوة إلا ودعتها لنا بأن يرزقنا الله المال الوفير، والحظ الجميل، والأهم من ذلك أن يرزق كلاً منّا شاباً تحسدنا عليه جميع الفتيات.
في كل هذه الأثناء كان همّي الوحيد أن أراقب ملامح الشحّادة، التي تمتلك جمالاً جذّابا، عينين خضراوين، وشعراً أشقر أخفته تحت إشارب رثٍّ، لم يستطع أن يغطي كامل شعرها لطوله، إضافة إلى شامة ناعمة تزّين خدّها الأيسر.
بعد انصراف المرأة تساءلت مخاطبة صديقتي، كيف امتلكت نقودا لتصبغ شعرها، ودخول صالون حلاقة يحتاج لحوالي عشرة آلاف ليرة. لكن صديقتي الطيّبة حاولت الدفاع عنها فقد تكون صبغت شعرها قبل أن تفقد زوجها ويمرض طفلها، وختمت بعبارة “الله يعين البشر”.
حقاً “الله يعين البشر” هذه الجملة الأكثر تأثيرا في القلوب، فكم هناك من بشر بحاجة حقاً إلى عون الرب، وخاصة أن هذه الأزمة اللعينة يتّمت عائلاتٍ كثيرة، وفجعت أخرى، وشرّدت الكثيرين.
خجلت من نفسي لهذا التفكير، ولكن ذلك لم يمنعني من الضحك على رفيقتي طوال الوقت، وأنا أردّد عبارة أن يرزق الله كلاً منّا شاباً تحسدها عليه جميع الفتيات، ولكنّ صديقتي قالت لي ألا أستهزئ بدعواتها، فـ “دعوات المظلومين مستجابة”.
بعد أيام قليلة اتصلت بصديقتي كي نخرج سوياً، للاتفاق على التحضير لعيد ميلاد صديقتنا الثالثة، كان أتستراد المزة المكان الذي قصدناه، فهو الأقرب إلى جميع من سيحضر عيد الميلاد، تمشينا كثيرا ونحن نعدّد ماذا سنفعل ومن سيكون معنا، حينما مررنا بمطعم جميل ولافت للانتباه، وقفت أمامه، وأشرت إليه وأنا أقول لصديقتي: إنه مناسب للاحتفال بعيد الميلاد، فضحكت باستهزاءٍ قائلةً: مناسب جداً لعيد الميلاد، ولكن أسعاره غير مناسبةٍ أبداً لجيوبنا، فهكذا احتفالٌ صغير، سيكلّفنا راتب شهرٍ كاملٍ من العمل، إن لم يكن أكثر.
كنت على وشك مغادرة المكان، حينما لفتت انتباهي فتاةٌ على غاية من الجمال، بثياب أنيقة، وشعر أشقر جميل للغاية، تخرج من باب المطعم. وكم ذهلت حينما أشارت صديقتي إلى الشبه بينها وبين الشحادة التي طلبت منا نقودا قبل أيام، “لكنها كانت هي ليست شبيهتها”، قلت لصديقتي وأنا أتذكر شعرها الأشقر من تحت الإشارب، وعينيها الخضراوين، وشامتها التي تتوضع على خدّها الأيسر، ولأنني تذكرت خجلي من تفكيري في ذلك الوقت، فقد اتجهت إلى الفتاة، وقلت لها: طمنيني، انشالله التقى زوجك، وطاب ابنك وعمل العملية، وانشالله لقيتي قرايبين وبطلتي مقطوعة من شجرة، ولكنها ما إن رأتني حتى مشت دون أن تعيرني أي انتباه، فمشيت باتجاهها مرة أخرى وقلت لها: “تاني مرة وقت بدك تشحدي وتدعي، ادعي الله يرزقنا شحاد، بلكي منقدر نقعد بهيك مطعم فخم!!”.
ومضيت وأنا أضحك وأقول لصديقتي “دعوات الشّحادين مستجابة”.
مادلين جليس