كاميل كلوديل 1915.. ثورة على التقاليد الطبقية والعائلية
إن لم تكن تعرف من هي بطلة الحكاية وما هي قصتها فلن يكون ممتعاً أو مجدياً أن تشاهد فيلم “كاميل كلوديل1915” إذ أنك لن تخرج في نهاية الشريط السينمائي سوى بهسيس الريح يستوطن أذنيك، وصوت تكسّر الحصى تحت وقع أقدام نزلاء المصح، أصوات ضحكات بلهاء وطنين ذبابة يرافقك طويلاً، بل لعل البرودة الساكنة داخل جدران المكان ستجعلك ترتجف كلما تذكرته، وأنت تحاول إبعاد صورة وجه “جولييت بينوش” بطلة فيلم “شوكولا” التي أدت دور بطلة القصة؛ وجه تائه بين سعيٍ للخروج إلى الحياة وشعور بالذنب زُرِع في قلبها، والخيبات التي نالت منها، إذ الظلم سيد الموقف بينما العدالة متوارية خلف عادات وتقاليد وغرور فنانٍ هو الأشهر في القرن الفائت.
التمرد والشهرة
هكذا نعلم أن الفيلم المذكور سيروي الجزء المأساوي من حياة فنانة هي الأخرى نالت شهرتها في عصرها كونها واحدة من الفنانات اللواتي تجرأن ليس على القيم والقيود المفروضة على الفنون فحسب، ولكنها ثارت على التقاليد الطبقية والعائلية أيضاً.
سوف تتلقى الفتاة أولى صدماتها في التقليد المتعارف عليه في زمن كان يمنع على النساء دراسة فنون النحت فكانت حصراً على الرجال لتتحدى الأمر وتعمل على موهبتها تحت إشراف النحات الشهير “ألفريد باوتشر” الذي صقل موهبتها وعدد من الفتيات الموهوبات لمدة ثلاثة أعوام، ثم يرحل بعد أن يعهد بهن إلى أشهر فناني النحت في القرن العشرين “أوغست رودان” لتبدأ الأقدار حياكة سيرة مشاركة في الفن والإبداع والحياة بين الاثنين، فيكون هو الأستاذ والحبيب وتغدو هي الملهمة والعشيقة والموديل الذي جسده في العديد من أعماله، وعندما يتطلب الأمر من رودان الاختيار بينها وبين زوجته ترسم الأقدار مصيرها العاصف إذ لن يكون الخيار في صالح كلوديل ما يضطرها للرحيل عن عائلتها والتخلص من جنينها ثم اختيار العزلة بعيداً عن الجميع، وعندما دخلت حالة من الغضب واليأس أعلنت أن “رودان” كان يسرق أفكارها وأعمالها، وأنه بات يسعى للتخلص منها بتسميم طعامها، وانزوت خائفة لا تغادر مشغلها حتى تفاقم وسواسها وانهيارها وانحدرت إلى ما يقارب الجنون، فقامت بتحطيم جميع منحوتاتها، الأمر الذي دفع بأخيها الشاعر والسفير “بول كلوديل” لعرضها على الأطباء وإيداعها مشفى الأمراض العقلية، حيث أمضت ثلاثين عاماً من حياتها وهو الجزء الذي عمل عليه مخرج فيلم “كاميل كلوديل 1915” حيث لا ظهور لرودان ولا حضور لأعمال نحتية لأي منهما، هنا نحن نعيش مع كلوديل أقسى أيامها ننتظر أخيها ونترقب معها بخوف وحذر أتراه يحقق لها توقها للخروج إلى الحرية أم يتركها للمصير الأقسى.
في المشفى
سنراقبها في البداية وهي تنقاد كطفلة للراهبتين ذاهبة للاستحمام وتنظيف يديها من بقايا الطين الذي علق بين أظافرها وقد التقطتها من الغابة الجرداء المحيطة بالمكان؛ كورتها بين أصابعها وبدأت بتشكيلها لكنها سرعان ما أصابها الاضطراب فألقتها بعيداً، ندخل معها المطبخ تعد طعامها نفسها وقد رافقها رهاب الخوف من مؤامرة على حياتها من خلال طعامها.
تساعد الراهبات بالعناية بالمرضى وهي الأكثر اتزاناً بينهم، وندخل معها غرفة الطبيب المشرف على المكان ينصت لشكواها فلا ينبس بكلمة، بينما تسرد له حكايتها وتتساءل: “أود أن أعرف لم أنا هنا؟ أنا محتجزة كما لو أنني مجرمة، بل وأسوأ من ذلك أنا لا محامي لدي، وحتى عائلتي لا تريد مساعدتي. وتستطرد: “يا إلهي كم يتملكهم هوس الاضطهاد أولئك السادة المحترمون الذين انقضّوا علي واستولوا على كل أعمالي وميراثي” وتتابع: “إنه رودان من يقف وراء كل ذلك، لقد تواطأ معهم وأوجد لهم الأعذار”.
بوح كلوديل هذا سيقابله بوح من نوعٍ آخر هو أقرب إلى البحث عن التطهر والتكفير عن ذنب اقترفه بحق شقيقته، أو أنه وهو يكتب رسالته لها كان يدون اعترافه بدل أن يتلوه في حضرة كاهن الكنيسة: “لدي قناعة بأن معظم حالات الجنون هي في حقيقتها حب التملك، وهي ناتجة عن حب التفاخر والترهيب، جنون العظمة وجنون الاضطهاد، لقد كانت فنانة عظيمة، أما هو فكان اعتزازه بنفسه واحتقاره لما هو جديد لا حدود له، كان هذا شيئاً مبالغ فيه إلى أبعد حد”.
انتظار وخيبة
يعترف أنه ممزق بين حبه لشقيقته وشعوره بالظلم الذي وقع عليها، وامتثاله لقيود المجتمع والعائلة والكنيسة، تلك التي يتخذ منها غطاء لما قام به تجاه كلوديل وورقة توت يستر بها عريه من كل ما يتظاهر به أمام المجتمع، أقله تلك القيم التي على رجل دبلوماسي وشاعر كتب فيها أجمل القصائد أن يتحلى بها.
ورغم طول انتظارها سيأتي بول لزيارتها، سيقابل حرارة اندفاعها وتوقها للتحرر بتذكيرها أن ما مصيرها هذا إلا الطريق للتكفير عن ذنوبها: “إنه شيء مريع هذا الذي اقترفته، كيف يمكنك العيش وتنفس الهواء بمثل هذه الجريمة التي تحملينها في ضميرك”. وسوف يغادرها إذ يراها غير مؤهلة للعيش خارج المصح رغم توسلاتها: “لقد مللت برودة المكان، لا حطب يكفي لتدفئة جسدي النحيل، روحي تتوق للتحليق في الضوء، أشتاق لأمي وإلى غرفتي والإطلالة عبرها على الشارع، على الحياة” ورغم إخباره من قبل الطبيب أنها باتت جاهزة للخروج. يغادرها ونُغادر الفيلم ويبقى وجهها وقد أفقدته الخيبة كل تعبير وعينان تائهتان تنظران إلى لا شيء، ومكان سوف تعاني برودته لسنواتها القادمة، تتعايش والجنون من حولها، لا يخرجها منه سوى بضعة رسائل من شقيقها بين الحين والآخر ورسائل كتبتها إلى صديقة لها، فكانت بشكل ما مرآة حال الأديبة مي زيادة التي أحبتها هي الأخرى فنانة وإنسانة وتلقت دعمها في محنتها المشابهة حين أودعها حبيبها وابن عمها بيت الجنون يوماً، وراسلتها تشرح كيف تنكر لها رودان وسار بها إلى نهايتها المأساوية تقول: “عندما تخلى عني واستولى عليه غروره وأنانيته، برفقة عصابته وتواطؤ عائلتي زجوا بي إلى بيت الجنون، جوّعني بعد أن حاصرني ومنع عني كل إمكانية للعمل” وتساءلت: “هل الحب الكبير يورث الحقد”؟.
و”كاميل كلوديل 1915” فيلم يترك المشاهد في حيرة حول معنى العقل والجنون، عمل بدا أقرب إلى الصامت حيث المضمون متضمّن في الصورة والأسلوب، خالٍ من أي حوار كالكثير من الأفلام الفرنسية للمخرج “بونو دومون” والذي عرض للمرة الأولى في العام 2013، وهو الفيلم الثاني الذي يتناول سيرة النحاتة كاميل، بعد العمل الذي أخرجه “برونو نيوتن” في العام 1988 وحمل اسم “كاميل كلوديل”.
بشرى الحكيم