الشعر.. والشاعر!
حسن حميد
يسألني شاعر يكتب قصيدة النثر والتفعيلة في آن، لماذا لم نتذوق، أنا وأبناء جيلي، طعوم الشهرة، ونحسّ بالنشوة حين تتجلى القصيدة بين أيدينا أسطراً بارقات؟! ولماذا تظلُّ الحال المعنية بالإبداع، حالنا، هي هي ثباتاً وسكوناً حين تنشر قصائدنا هنا أو هناك؟ بل لماذا لا أحد يمرُّ بنا، ونحن لا نمر بأحد حين تصدر دواوين شعرنا تترى؟ ولماذا أصبحت تواقيع الكتب، والقراءات النقدية، والمهرجانات التي نشارك فيها أشبه بالغرابيل التي يراد لها أن تملأ بالماء؟! هل نحن ممسوسون بلعنة التجاهل، أو أن قصائدنا ملساء زلاّقة لا تثبت أو تقرّ في صدر أو وجدان؟ وهل ولّى زمن الشعر والوله به؟
قلت، وأنا أكتب لصديقي الشاعر، الدنيا تغيّرت هذا صحيح، والناس تناهبتهم الأسئلة الباحثة عن ما هو أجدى من الشعر والكتابة، والشعر غدا في جميع بلدان العالم حقولاً شاسعات أكثر من البراري والصحارى، والشعراء غدوا أمماً مثل الطيور في الغابات أو على شطآن البحار، ودور النشر باتت هي والصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي أطوع من الثياب حين تُرتدى، والنقاد بدوا في اجتماعهم مثل اجتماع العرائش على الشطوط، وقاعات الاستقبال لإنشاد الشعر تكاثراً كأنها المدن أو تكاد! كل هذا صحيح، ومؤثر، والوقوف عنده يشير بجلاء إلى أنه يد معوان للشاعر والشعر كيما يظهرا ويتطاولا وينتشرا صيتاً ومكانةً، ولكن كل هذا التغيير، وكل هذه الوسائل المعينة مكَّنت الشاعر من قصيدته لتكون أجمل وأوفى الجواب: لا لأن كل هذه الوسائل والصالات اللامعة وتواقيع الكتب لم تكن موجودة أيام وجود قصيد المتنبي والسياب! إذاً، ما السر في تكاثر هذا البهوت والانطفاء وحالات إدارة الظهر إلى شاعر اليوم وما يكتبه من شعر؟ السر، في ظني، كامن في أمرين اثنين، أولهما: الشاعر، وثانيهما: الشعر؛ فالشاعر انساق وراء ضجيج وصخب حسب أنهما ظاهرة جديدة ولا بدّ من تبنيها، فصار كائناً خلواً من الأسرار لكثرة ما يتحدث عن كل شيء وفي كل شيء، ويغمس روحه في قضايا صغيرة لا أهمية لها ظناً منه أن فعله هذا فعلُ حضور، وهو لا علاقة له بالثقافة والشعر والإبداع. كان الشاعر، فيما مضى صاحب عزلة وندرة في الحديث، وصاحب تهيّب يخشى دفع نفسه إلى موقدة ليست له، وقد تعلم ذلك من الطبيعة وما فيها، فالمطر له موسمه وبهجته، وله أشواقه في صدور الناس، ورفوف طيور الكراكي لها مواسمها كي تطل على القرى والبراري والبحيرات والأنهار، وثاني الأمرين، إطلالات الشاعر الكثيرة، والكثيرة جداً، التي أوقعته في مربع التكرار، والتكرار كائن قاسٍ يواري الدهشة ويخفي السحر. ولهذا كله صارت صورة الشاعر بلا رونق أو زهوة بعدما كانت صورة مشتهاة وحلماً يراود الأمم والذوات المصلوبة على خشبة الإبداع والاشتقاق.
وشاعر اليوم، وقصيدته أيضاً، كائنان بلا صبر، بلا غايات وأحلام كبرى، فما إن تصير دندنة القصيدة رطانة في فم الشاعر حتى يسارع إلى كتابة سطر أو سطرين منها على صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي.. ظناً منه أنه وافى طريدةً، وعادة لا يشدّ السطر الشعري أو السطرين الشعريين الشاعر لإكمال القصيدة، لأن سر القصيدة فُضح! إن اللهاث وراء مواقع التواصل الاجتماعي خرّب الدورة الدموية للشعر والشاعر معاً، وانتهك الأسرار.
الشعر ابن العزلة، والمكابدات، والأحلام العوالي، والمعارف الطوّافة بين دفتي الأساطير والفنون وما يربخ بينهما من موسيقا وألوان وجمال ومعانٍ وأسرار وأرواح ذوّبها الحنين للمصطفى الداهش المدهش، وبهذا تعود الحياة بنيسانيتها إلى الشعر، فتُبنى الأدراج للشاعر النايف!
Hasanhamid55@yahoo.com