المبالغ المرصودة غير قادرة على تفعيل الحراك الاقتصادي إشكاليات الإقراض ومتاهاتها الورقية تحول دون انسياب أموال المصارف في مسارات التنمية…
لازلنا نعول على دور المصارف المأمول في قيادة المرحلة القادمة من إعادة الإعمار، لكونها الخزينة المكتنزة بالأموال للبدء بالمشاريع الاقتصادية والإنتاجية، إلا أنها لا تزال محكومة بالنظرة التقليدية السائدة التي تحد من دورها لجهة تحفظها على منح التمويل إلا بموجب الضمانات “التعجيزية” التي شكلت عثرة كبيرة في وجه الكثير من المقترضين والمتضررين من الأزمة نتيجة تهدم منشآتهم خاصة أن الأخيرة قد تشكل الضمانة الأنسب لمثل هذه القروض، إلى جانب إخضاعها لفوائد عالية نسبياً، فعلى الرغم من اجتهاد المصارف لتقديم سلل إقراض متنوعة طالت شرائح متعددة في المجتمع، وبفائدة تراوح ما بين 8 إلى 10% كنسبة فائدة “مناسبة” من وجهة نظر المصارف منذ بداية العام الحالي، إلا أنها واجهت إشكالية حقيقية تمثلت بإحجام المقترضين عن عمليات التمويل، وشكلت ظاهرة عامة ولاسيما إذا ما علمنا عدم تسجيل لوائح المصارف سوى عدد محدود لطلبات التمويل ومعظمها يندرج في إطار السؤال والاستيضاح، كما أنه ورغم توجيه المصارف لدراسة هذه الظاهرة وتقديم حلول ناجعة، إلا أنه لم يتم حتى اللحظة البوح عن إجراءات تلامس حقيقة تلك الظاهرة وتعالجها.
قانوني ولكن..!
قد تبدأ الإشكالية بحسب رأي الخبراء باشتراط منح التمويل بوجود ضمانات عقارية أو عينية أو شخصية لضمان حقوق المصارف، وهذا إجراء يندرج في السياق القانوني للمنح، إلا أن واقع الأزمة جرد معظم الأفراد من ممتلكاتهم العقارية أو الصناعية، مما جعل تقديم ضمانة مناسبة عقبة تليها عدة عقبات تبدأ بموقع الضمانة الجغرافي في منطقة ساخنة أو غير مستقرة، وبالتالي مدى استطاعة المصرف اعتمادها ضمن وثائقه المطلوبة، وليس انتهاءً بمدى تناسب قيمتها المادية مع ما أقرته المصارف لمنح التمويل، كأن تكون الضمانة العقارية تساوي قيمتها المادية 100% من قيمة القرض مع الفوائد، وبالتالي قلصت هذه الإجراءات المجال المفتوح “افتراضياً” أمام الراغبين بالتمويل إلى مادون الربع بحسب توقعات خبراء الاقتصاد.
بعد ديموغرافي
كما أن ما يشوب مسار تأمين الضمانات العقارية من إشكاليات وعوائق ينسحب بالضرورة على الضمانات العينية، وخاصة لدى إلزام المصارف المقترضين بضمانات عينية عالية، كأن تساوي الضمانة العينية 125% كتعليمات المصرف التسليف، أو 150% من مبلغ القرض كتعليمات المصرف التجاري على سبيل المثال، كما أن الضمانات الشخصية تبدو للوهلة الأولى هي الخيار الأفضل من وجهة نظر المصارف لدى إدراجها ضمن سياق الضمانات المعتمدة، ولكنها غفلت عن الإشكاليات التي تتعلق بالتوزع الديموغرافي الجديد بُعيد الأزمة، إضافة إلى تضاءل قيم التكامل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الناجي من الأزمة المتسببة بالعديد من الآثار الاجتماعية والتي دفعت بالكثيرين إلى عدم الثقة والحذر من المجازفة.
حالة خاصة
الإشكاليات تكمن بالتفصيل أيضاً، فعندما يطلب من أحد الراغبين بالاقتراض أن تكون الضمانة العقارية غير المفرزة هي جزء من الحصة العقارية الكاملة المملوكة من قبل الأصول أو الفروع، فهذا يعني بالمحصلة عرقلة لمسيرة الأوراق المطلوبة، وبالتالي يحجب المنح عن طالبيه، وفي حال وجود حلول لمثل هذه الحالات، نتساءل عن جدوى إقرار هذه التعليمات المعرقلة والتي تبعد الكثيرين عن التوجه إليها.
أرقام خجولة
يبدأ الحل بحسب الخبير الاقتصادي عامر شهدا بتفعيل مؤسسة ضمان مخاطر القروض، واعتماد آليات لتمويل المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر بمزيد من التسهيلات التي تؤمن انطلاقتها وتطورها إلى مشاريع كبيرة، وذلك كون مبلغ التمويل يكون أقل قياساً بالمشاريع الضخمة، وبالتالي ضماناتها أقل، كما بين شهدا أن ضآلة حجم المبلغ المرصود في المصارف لتمويل المشاريع الإنتاجية غير قادر على إنتاج حراك اقتصادي، فرصد 10 مليارات في كل مصرف عام لتمويل كافة المشاريع الصناعية والإنتاجية لعام 2018، لا يمكنها تمويل سوى 1500 مستفيد وسطياً، وبالتالي فإن المصارف الخمسة مجتمعة رصدت 50 مليار ليرة لـنحو 7500 مستفيد وذلك في حال تمكن الجميع من الحصول على التمويل، وبالتالي فإن الرقم لا يزال خجولاً قياساً بعدد المتضررين وبحجم الدمار الذي لحق بالمنشآت خلال الأزمة، إذ تكشف بعض الإحصائيات عما يفوق 200 ألف متضرر من أصحاب المهن والحرف المختلفة عدا عن أصحاب المنشآت والمعامل، وبالتالي فإن قروض كل مصرف لن تصيب أكثر من 10% من العدد الإجمالي لهم. كما أنه وبالنظر إلى حجم القروض الممنوحة، فإنها تزداد ضآلة قياساً بالأسعار الرائجة للمعدات والآلات اللازمة لأي مشروع، إذ يقف سقف التمويل على عتبة الـ10 ملايين لأصحاب المهن والحرف، دون النظر إلى عدد الخريجين الجدد والذين هم بحاجة ماسة للتمويل للبدء بمشاريعهم المستقبلية.
بالمحصلة
ربما تبدأ الحلول بإعداد دراسة تبين عدد المقترضين المتوقعين، بالإضافة إلى تأثير التضخم على المحفظة المصرفية، وتأثيره على حجم الكتلة النقدية للقرض ومقارنتها بالأسعار السائدة، ومن ثم وضع تعليمات لمنح القروض تتوافق بالنتيجة مع إمكانيات الراغبين وجدوى مشاريعهم الاقتصادية بفوائد مناسبة تمكنها من عبور عنق الزجاجة، مع الإشارة أخيراً إلى تبني المصارف لمسؤوليتها الاجتماعية والاقتصادية تجاه الراغبين بالعودة إلى الحياة الصناعية والإنتاجية قد يشكل بداية الحل، وذلك من خلال اعتماد ضمانات أكثر سهولة كرهن المشاريع والمنشآت المراد تمويلها، ولاسيما أن كل مصرف يتم فيه دراسة المشروع والتأكد من جدواه الاقتصادية، ولا يحظى بالموافقة إلا من حاز على قبول اللجنة الخاصة بالدراسة بعد التأكد من وجود عوائد مالية عالية قادرة على تسديد أقساط القروض، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية لجهة اعتماد ضمانات متوفرة تتناسب مع واقع السوريين بشكل عام، والعمل على دفع المصارف الخاصة للقيام بدورها التنموي، وتوسيع شريحة المستفيدين من قروضهم.
فاتن شنان