نحن والقانون الدولي
د. مازن المغربي
يبدو أننا نعيش في عالم عبثي يتم فيه التلاعب بكل شيء، تتغير المواقف، وتتلاحق التصريحات المتناقضة، سنوات والشعب السوري يعاني من هجمة شرسة تحالفت فيها قوى تكفيرية مع دمى معارضة الخارج في إطار حلف عدواني واسع ضمن إطار تحالف دولي معاد لسورية ولشعبها، سقط مئات آلاف الضحايا، وتجاوز عدد الجرحى المصابين بعجز كبير عشرات الآلاف، وتم استهداف البنى التحتية بشكل منهجي، تعرّضت سورية لغزو حقيقي، حيث تمركزت قوات من الولايات المتحدة في منطقة التنف، في حين انتشرت قوات تركية في أراض واسعة من الشمال السوري، ومع كل هذا لم تتحرك أية منظمة دولية، ولم تصدر بياناً يدين الاعتداء على دولة ذات سيادة، وعضو مؤسس في منظمة الأمم المتحدة، والغريب أن هناك من يبرر ما تتم ممارسته ضد سورية بأنه إجراءات تنسجم مع روح القانون الدولي.
تعود فكرة تبني قانون دولي إلى زمن بعيد بهدف تنظيم العلاقات بين الكيانات السياسية القائمة، ويعتقد أن أول معاهدة دولية معروفة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وعقدت بين رعمسيس الثاني فرعون مصر وملك الحثيين، كان الهدف هو تثبيت الوضع القائم على أساس توازن القوى، وبالتالي كان من المنطقي أن يقوم الطرف الذي يميل إلى مصلحته ميزان القوى بخرق المعاهدات، وفرض قانون دولي جديد يضمن مصالحه، وعلى مدى التاريخ كان القوي يبرر ممارساته بأنها منسجمة مع القانون الدولي الذي تحققت في ظله عمليات احتلال واسعة، ونهب ثروات، وقتل، واسترقاق، كان العالم مقسماً بين مجموعة صغيرة من الامبراطوريات التي تنمو لتصل إلى أوج مجدها، ثم تبدأ مرحلة الانهيار والاندثار، ليبرز لاعبون جدد يتقاسمون العالم، ولكن مع بداية عصر النهضة في أوروبا، وبداية الثورة الصناعية تغير الوضع بشكل جذري، فمنذ بداية القرن السابع عشر برز مشروع الرأسمالية الطموح الهادف إلى إعادة تشكيل العالم بما يتناسب مع مفهوم السوق العالمية، صارت هناك مكننة وفائض في الإنتاج، وصارت هناك حاجة إلى تصريف المنتجات.
شهد القرن الثامن عشر انتصار الرأسمالية كنظام عالمي اخترق الحدود السياسية وتجاوزها، تم هذا في ظل أنظمة حكم ملكية مطلقة واستبدادية أرسلت الجيوش لاحتلال أفريقيا، والقارتين الأمريكيتين، وآسيا، وتحولت الرأسمالية فعلياً إلى نظام عالمي يخضع لقوانين العرض والطلب وفائض القيمة، ولكن في عام 1917 بدا أن هناك عصراً تاريخياً جديداً سيبدأ، حيث قام في روسيا القيصرية نظام رفع شعارات السلم والعدالة والمساواة، ولكن تبيّن لاحقاً أن ذلك لم يتعد إلا السطح، فبعد تطبيق سياسات اشتراكية صارمة فرضت القوانين الموضوعية نفسها، وتحولت الدولة الجديدة إلى نظام رأسمالية الدولة البيروقراطي الذي استمر حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، واليوم يخضع العالم بأسره لمنطق السوق وقوانينه، وهذا يشمل كل القوى الصاعدة مثل الصين، وروسيا، وغيرها التي تبنت بدورها نظام الإنتاج الرأسمالي، أما شعارات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي فليست سوى مساحيق تجميل لوجه الرأسمالية القبيح الذي شرح حقيقته بشكل مفصل الباحث الألماني روبرت كورتز في مؤلف مثير للاهتمام حمل عنوان الكتاب الأسود للرأسمالية الذي صدر في مدينة فرانكفورت عام 1999، وتضمن تحليلاً مفصلاً للمشروع الرأسمالي، والمراحل المختلفة التي مر بها.
كان الاستعمار الأوروبي همجياً بكل معنى الكلمة، وقام على القرصنة والسطو والاستعباد، وترافق ذلك بعمليات انتهاك منظمة للكرامة البشرية، كما نتبيّن من كتاب جديد صدر مؤخراً في فرنسا تحت عنوان “المستعمرات: جذور عنصرية اسمها الرغبة”، فعلى امتداد أكثر من خمسمئة صفحة قام المؤلفون باستعراض جانب آخر من عمليات انتهاك حقوق سكان أفريقيا مازال مستمراً منذ ستة قرون، اشترك في تحرير الكتاب سبعة وتسعون باحثاً، وتضمن 1200 صورة، وعرض بشكل منهجي سياسات استعمارية بشعة تصر على انتهاك أجساد أصحاب الأرض الأصليين.
لا يستطيع مكابر أن ينكر أن النظام الرأسمالي تمكن من تجاوز العديد من الأزمات الكبرى، لكن ذلك تم على حساب أغلبية البشر، ولمصلحة طغمة مالية جشعة تتحكم بإيقاع كل ما يدور في كوكبنا، قاد التنافس الرأسمالي إلى مجزرتين رهيبتين لم يفصل بينهما سوى واحد وعشرين عاماً، ولم يتردد رئيس الولايات المتحدة، المنتخب ديمقراطياً، في إصدار أمر بضرب مدن يابانية آمنة بالسلاح الذري، مدشناً بذلك عصر الرعب النووي الذي صار يهدد استمرار الحياة على كوكبنا.
إذاً تمكنت الرأسمالية من فرض برنامجها، ونجحت إلى حد بعيد في السيطرة على عقول البشر في كل أرجاء العالم، وروّجت لفكرة أن القيم التي يدافع عنها العالم الغربي المتقدم هي قيم عالمية تصلح لكل الشعوب، في حين أن واقع الأمر يشير إلى أنه تم استخدام أقذر الوسائل لنشر ثقافة الخنوع الذي صار سمة عامة في كل بلدان العالم، وصارت النخب الثقافية في مختلف الدول تتبارى في تبني شعارات تم صوغها بدقة مثل الديمقراطية، وحرية الإعلام، والأهم حرية التجارة، وابتعاد الدولة عن التدخل في الشأن العام، واحترام القانون الدولي، وكلها شعارات براقة تجذب الكثيرين، لكنها تتعارض مع الممارسات الحقيقية للبلدان الرأسمالية.
ففيما يخص الديمقراطية التي تتجسد وفق المفهوم السائد في الانتخابات، تمتلك واشنطن سجلاً طويلاً من العمليات السرية التي أطاحت بأنظمة منتخبة ديمقراطياً، أما حرية الإعلام فصارت كذبة مفضوحة بعد أن تبيّن أن كل وسائل الإعلام الكبرى مملوكة من قبل شركات ضخمة مرتبطة بوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة، كما أن هذه الوكالة تتحكم بشكل مباشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفرضت على شركات تصنيع الحواسيب استخدام برمجيات شركة مايكروسوفت التي هي في حقيقة الأمر واجهة لوكالة الأمن القومي التي أقامت برنامج الرقابة الشامل “اكيلون” الذي يرصد أي جهاز يصدر إشارة كهرطيسية، ويحول تلك الإشارة إلى معالجات خارقة لديها القدرة على فرز كل ما يتم تبادله من معلومات عبر شبكة الأنترنت، وفيما يتعلق بالابتعاد عن التدخل في الشأن العام نجد أن هذا ينطبق فقط على الأمور المتعلقة بعامة الشعب، أما نخبة الواحد في المئة المتربعة على قمة النظام الرأسمالي فلا تتردد في الطلب من الدولة التدخل لصالحها، كما حدث مراراً خلال السنوات الماضية، حيث تم إنقاذ البنوك الضخمة من الإفلاس بعد تدخل الدولة بما يتعارض تماماً مع شعار حرية السوق، نصل إلى موضوع القانون الدولي الذي تستخدمه مختلف حكومات تحالف العدوان لتبرير جرائمها في سورية، فمن الناحية النظرية يتجسد القانون الدولي في هيئتين هما مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، ولا يوجد تفويض لأية دولة بتطبيق مبادئ القانون الدولي دون تنسيق مع هاتين الهيئتين، وبالتالي فإن كل الضربات التي استهدفت مواقع سورية مثّلت خروجاً على القانون الدولي، أما النقاش الذي دار مؤخراً في “البوندستاغ” الألماني فيعبّر بشكل فظ عن انحدار مستوى الخطاب السياسي بشكل غير مسبوق، حيث ناقش البرلمان الألماني فكرة سفسطائية حول مساهمة الجيش الألماني في توجيه ضربة عسكرية ضد أهداف سورية في حال قيام الجيش السوري باستخدام السلاح الكيميائي ضد المسلحين في ادلب، هكذا بكل بساطة تم تجاهل ادعاءات واشنطن بأنها دمرت مخزون السلاح الكيميائي السوري، كما دمرت المنشآت المخصصة لإنتاجه، وتناسى النواب الألمان أن المختصين بالتشريع في بلادهم خلصوا إلى أن الضربات العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة وفرنسا في الرابع عشر من نيسان الماضي لم تكن متوافقة مع القانون الدولي، حيث تضمن تقرير الخبراء أن استخدام القوة ضد دولة بسبب قيامها بانتهاك معادلة دولية يمثّل انتهاكاً لحظر اللجوء إلى العنف وفق الفقرة الرابعة من المادة الثانية لشرعة الأمم المتحدة، وكانت وسائل الإعلام الألمانية تداولت نبأ طرح فكرة التدخل العسكري في سورية، وطلبت من الأجهزة المعنية إعداد قائمة بالمواقع التي يجب استهدافها، وتم تبرير الخطوة بأنها استباقية، لأنه في حال قيام الحكومة السورية باستخدام السلاح الكيميائي لن يكون هناك وقت كاف للتحضير للضربات العقابية، لا أظن أن أحداً كان يتوقع مثل هذه المناقشات العبثية في مجلس النواب الألماني الذي يفترض أن يراقب أداء عمل حكومة بلاده بدلاً من الغوص في مناقشات بيزنطية لا جدوى منها، لأنه صار من الواضح أن هذا التغير في موقف الحكومة الألمانية تم بضغط من واشنطن التي تصر على مبدأ أن من يجلس إلى مائدة السلطان لابد أن يضرب بسيفه!.