“الرحلة”.. من أين يكتسب القتلة شجاعتهم
عادة ما تكون محطات الانطلاق على اختلافها أمكنة التقاء تجتمع فيها الوجوه والقصص والحكايا من هنا وهناك، أناس يجمعهم مطلب السفر الآني وتفرقهم هموم وقضايا حياتية خاصة، هناك قد يلتقي عشاق وقد يفترق آخرون، أطفال دفعتهم قسوة الأيام فأضحوا أبناء الشوارع ماسحي أحذية أو بائعي ورد وحلوى، وهناك ربما ترى أحبة أرهقهم ترقب الخلاص من ألم الانتظار فيجمعهم غضب وعتاب أخير على مقاعد المحطة، ويمكن للمكان أن يتسع قليلاً لجثمان لُفَّ بعلم البلاد ينهي انتظار أب يهيم بين الفخر والفجيعة، إليهم جميعاً يمكن لفتاة غامضة لم تتجاوز عشرينياتها تاه بها العقل أن تنضم إلى تلك الجموع ذاهلة واجمة تواري شيئاً ما تحت ثيابها.
سارة
“سارة” هي أسُّ الحكاية التي اختارها المخرج العراقي محمد جبارة الدراجي لفيلمه “الرحلة” في تساؤلات عديدة يثيرها في الذهن أهي رحلة قطار لم يكتب لها أن تصل وجهتها، أو أنها تجوال في ذاكرة العراقيين وأطيافهم الاجتماعية بعد سنوات الحرب والخراب، أم هي رحلة الفتاة في مهمة قادتها إلى المكان، أو لعلها وهي الأهم الطريق الذي وضعت عليه سارة لاستعادة ذاتها واسترداد الإنسان الذي في داخلها، ومن جهة ثانية وأهم من أين يكتسب القتلة شجاعتهم إن كانوا يستحقون التسمية، أتراها من جهلهم بالضحايا، ومن أين يمكن للتغيير أن يأتي هل يمكن للقاتل أن يعي انتماءه للإنسانية بمفرده أم هي مهمة المحيط أم أنه خيار متكامل تتشارك مسؤوليته كل المكونات في المجتمع الواحد.
هكذا تبقى عيون المشاهد شاخصة إلى الشاشة وعيني سارة الجامدتين ويدها القابضة على جهاز التحكم أتراها ستضغط على الزر اللعين الآن أم أن معجزة ما سوف تردعها وترفع الجدار بينها وبين الأفكار التي زرعت في رأسها الصغير.
سلام وصبية المحطة
في لحظة معينة سوف يصدمها القدر بسلام وهو شاب يحترف النصب والاحتيال ويتعيش مما يقنصه من ضحاياه عابري المحطة الكبيرة، يعرفه صبية المحطة ويلجؤون إليه في حل صراعاتهم الصغيرة، علاوي ماسح الأحذية المذعور دائماً وشقيقته التي تبيع الورد، يحاول معاكسة الشابة فيثير العنف في صدرها فتصدمه بالحزام المحيط بجسدها، يحاول جهده ثنيها عن تنفيذ مهمتها، ويدخلا في صراع فكري بسيط بساطة الإنسان الذي جبل منه، عميق وقوي قوة الفاجعة التي سوف تحدثها، بلهجة عراقية صرفة سنجهد لاستيعاب مفرداتها يخاطبها:
– أنت مو مجبورة تساوين هادا الشي. يحاول ردعها وعينه لا تنفك تتابع يداها التي تقبض على يده بقوة أو تلك التي تهدد بإحداث الكارثة.
– حرام تقتلين هذي الناس! ووسط الرعب والذعر الذي يحيط بالاثنين، تفر من بين الناس امرأة تتجه إليهما وترمي في حجر سلام بحقيبة سوداء يكشف بكاء واهن صادر عنها عن طفلة بداخلها، مايزيد الأمر تعقيداً، لكنه لا يثني الفتاة عن عزمها:
– أنا ما يهمني لا الطفلة ولا أنت ولا أي حدا من هالناس، أنا جاي أطهركم وأطهر هذا المكان من الأمريكان وأحمي ديني، أنا اخترت هذا الشيء لم يجبرني عليه أحد، قتلكم رحمة حتى تتطهروا من ذنوبكم، وتردف قائلة “قاتلوهم حتى لا تكون فتنة في الأرض، ويكون الدين كله لله”.
وجهاً لوجه
سوف تمتد يد سارة مرات عديدة إلى جهاز التفجير ثم تتراجع في كل مرة، يرن هاتفها أكثر من مرة في إشارة إلى ضرورة التنفيذ لكن وجود الطفلة سيكون وسيلة سلام كي يعيد سارة إلى إنسانيتها والأمومة في داخلها، وانعدام جدوى ما تنوي القيام به، يقتادها الجنود الأمريكان لتكون المترجمة لما تقوله المرأة والدة الطفلة “هربت من الشمال، هربت من إخوتي يريدون قتلي” لقد أحبت شاباً واتفقا على الزواج ثم اختفى بعد أن حملت سافر إلى أمريكا وتسابق الزمن وسكاكين أشقائها بالفرار تلحق به خارج العراق.
وفي زحمة المكان والمسافرين والعابرين سوف يتوقف الزمن بسارة، يواجهها مع أبناء بلدها تقرأ المواقف التي واجهتها في المحطة، حكاياتهم التي ما اختاروها سوف تضعها أمام خيار الفجيعة الحتمية أو العودة إلى ذاتها قبل أن تتعرض لغسل الدماغ كالعديد من أبناء المجتمعات في زمن الثورات القاتلة.
” أنا في حياتي لم أؤذ أحدا، الشيخة صفاء قالت لي أن هذا الشيء صح، وأنا صدقتها” تهمس في أذن سلام، يعود الهاتف للرنين فلا تجيب وتترك للشاب أن يخلصها من الحزام، بينما يعلن رجل الأمن إلغاء جميع الرحلات لضرورات أمنية، لتكون عودة المغادرين تشييعاً لشهيد الوطن يحمله الجميع على أكتافهم، الأب المفجوع، العروس الهاربة من عرس ليس حلمها، الأطفال والفرقة والمرأة التي يئست وهي تنتظر تحقيق وعود بالزواج وقد قاربت خريف عمرها.
محمد جبارة الدراجي مخرج عراقي من مواليد العام 1978 في رصيده عدد من الأفلام القصيرة “البلدوزر، نحيف، والحرب” ومن أفلامه الطويلة “أحلام، وابن بابل” الذي نال عددا من الإشادات، ركز فيها جميعاً على نقل معاناة البسطاء من أبناء مجتمعه الحالي الذي أودت إليه الفوضى والعنف الذي عم البلاد بعد الغزو الأمريكي، يقوده طموح بالانتقال بحال السينما العراقية إلى فضاء أوسع وأرحب، والمساهمة في إعادة بناء ثقافة وطن دمره الاحتلال، طموح لا بد يشوبه النقص بشكل ما إذا ما كان التمويل من جيوب حكومات دول شاركت في الدمار الذي يعيشه العراق.
بشرى الحكيم