عزيزة هارون.. الأيقونة ذات النزعة الصوفية
ذات يوم قال الأديب طه حسين للشاعرة عزيزة هارون: “إن موهبتك الأصيلة نابعة من ذات نفسك، ولو كنت تجيدين الفرنسية لقلت إنك متأثرة بالشعراء الفرنسيين”، ووصفها الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي بالشاعرة الياسمينة، وفي ندوة الأربعاء الثقافي وتحت عنوان “سوريات صنعن المجد” وصفها د.محمد قاسم مدير الندوة بالشاعرة ذات الديباجة البحترية والنزعة الصوفية الإنسانية”.
الفراشة الملونة
ووصف الأديب ميخائيل نعيمة أشعر الشعراء في المؤتمر الذي انعقد في بلودان للأدباء الشاعرة هارون بأوصاف كثيرة منها: “الشاعرة المنسية والذات الموجوعة والملهمة الرائعة وأيقونة الأحاسيس وثنائية القلب والوجدان”، وتحت عنوان “أصداء الحياة الاجتماعية في شعر عزيزة هارون” قالت د.منيرة فاعور: بجمالها الفاتن وبياضها الناصع واستدارة وجهها القسيم الوسيم وعينيها الخضراوين تعد من ملكات الجمال وتمثل تمثيلاً صادقاً جمال الجزء الشمالي من سورية، ولو أن اليازجي تأخر به الزمان ورأى عزيزة لقلنا أنه يعنيها بقوله:
عزيزة قوم حبها قد أذلني نعم كل من يهوى الجمال ذليل
إن أنوثة عزيزة الرقيقة مع جمالها الباهر مع الشاعرية الخصبة والصوت الهامس الرخيم يساوي قنبلة هيدروجينية فقال عنها د. شكري فيصل: “أناقة في كل وجه، أناقة في المظهر، وأناقة في اللفظ وأناقة في المعنى.. في النار ولا تحترق هذه الفراشة الملونة ودائماً تجدد نفسها”.
وعن حياتها قالت د. فاعور: ولدت عزيزة في مدينة اللاذقية عام 1923 وتلقت علومها هناك، وتزوجت في سن مبكرة من عمرها، ولعل السبب في زواجها المبكر قد يعود إلى حسنها الباهر الذي جعل الشباب يسارعون إلى طلب يدها، فتزوجت ثلاث مرات، ولم تتعلم تعليماً كافياً ولم تواصل تعليمها العالي لصعوبة ما مرت به، إذ بنت نفسها بنفسها وصقلت موهبتها بما كان تقع عليه عينها ويدها من كتب لأعلام من الشعراء والأدباء، وقد أعانها في ذلك الشيخ سعيد مطرجي الذي تأثرت فيه كثيراً في البعد الصوفي وكان قد علمها اللغة والقرآن الكريم.
في بواكير شعرها مالت إلى القصائد التقليدية الموزونة إلا أن ذلك لم يمنع قصائدها من أن تحمل روح الحداثة شكلاً ومضموناً فخرجت من عباءة التحليل إلى رحابة قصيدة التفعيلة فشكلت تجاربها الشعرية إحدى علامات التأسيس للحداثة العربية مع جيل الرواد المؤسسين، أمثال فدوى طوقان ونازك الملائكة. هذا كله جعلها تنشر في الصحف قصائدها وأولها كانت جريدة الصباح الدمشقية ثم ما لبثت الصحف الأخرى في سورية والبلدان المجاورة أن نقلته ونشرته.
الغزل
صاغت لغتها من زهر وحجر لتتدفق من فم سيدة متألقة بالموهبة مشعة بالجمال الخارجي والداخلي، وعن الغزل في شعر عزيزة هارون قالت د.فاطمة تجور:
لتجاربها الحياتية الخاصة أثر في رؤيتها الشعرية، فتجارب الحب والزواج المتكرر في حياتها أدت لانكسار البوح العاطفي في شعرها. وما جوهر الشعر إلا إحساس بالحياة، ومحاولة لتشكيل هذا الإحساس في لغة قادرة على أن تأخذنا من الحياة التي نعرفها ثم تعيدنا إليها.
كانت قصيدة الحب تمنحها مجالاً حراً في تحقيق الذات لأنه الموضوع الذي تشغل الذات به نفسها حتى تترسب أحزانها في القاع، ويبدو كل شيء جميلاً وسارّاً في هذا الوجود.
وتشف قراءة شعرها في الحب عن نسق ثقافي أنثوي يتحرك بحياء حتى يبدو ليناً رقيقاً مهموساً فيه دمج بين عالم الأنثى وعالم الطبيعة بل تتحول الطبيعة في هذا الشعر إلى أداة فنية تتجلى فيها نفسية الشاعرة المتوارية خلف النص. وتظهر في شعرها النظرة السحرية إلى المحبوب “الرجل” الذي اكتسب صفات خاصة بسبب طبيعة الأنثى الخجول التي لا تزال لا شعورياً تقيّد رؤاها بمفردات مواربة.
كما تغيب صورة الرجل الحسية، فكأنه محرض شعري أكثر منه إنساناً حقيقياً، ولغزلها معجم خاص تكثر فيه الألفاظ العاطفية ذات المخزون النفسي الانفعالي كالدموع والقلب والجروح والهجر والشوق والأرق والهم والحنين، وتدفقت من “معجمها” ألفاظ أنثوية خاصة “العطور، الأريج، الحقيبة، الثوب الأنيق، الرداء الجديد، العقد”.
ومن معطيات شعرها الجمالية التي تكشف عن إيحاءات نفسية وفكرية، ترقرق نسيجها الشعري بنبرة إشراقية تشع من مستويات عدة في القصيدة تزيد أشعارها صفاء وألقاً. وفي لحظات التوهج العاطفي تميل الشاعرة إلى الحكي أو السرد بوصفه قيمة مؤنثة فنراها تؤثر السرد بصياغة أنثوية تلوذ بها عزوفاً عن المباشرة وتحرجاً من التصريح.
لقد عكست الشاعرة مرايا الغزل فهي العاشقة الولهى، والرجل هو المعشوق الذي يفعم روحها بالحبور والذي تسعى إليه بكل ما تستطيع حتى تبدو أسيرة حبها له، ويسيطر ضمير المتكلم سيطرة واضحة على النص لا يعادله في ذلك إلا ضمير المخاطب الذي رهنت نفسها له، ولعل عنوان القصيدة “إليك أغني” يكشف عن هذين الضميرين وخدمة أحدهما للآخر.
عزيزة والتُّراث
ليس حضور التُّراث العربي أو تراث المنطقة عموماً الملمح الأبرز في شعر عزيزة هارون، لكننا نقعُ على إفادات ذكيّة من التُّراث في نصوصها، وعن المؤثرات التراثية وتجلياتها في شعر عزيزة هارون قال د. ثائر زين الدين:
نعثرُ على تعالقاتٍ وتناصاتٍ واضحة تارة، ومخفيّةٍ أخرى مع نصوص التراث وشخصيّاته وأحداثه، ولا بأسَ أن نقف على مجموعة من الشواهد على هذه التعالقات التي نُصنّفها لغايةِ الدراسة: إلى تعالقاتٍ مع التراث الأدبي العربي، وأخرى مع التراث التاريخي والسياسي، وثالثة مع التراث الإنساني الفني والموسيقي وما إلى ذلك، واضعين نصب أعيننا منذ البداية أن النص الشعري، هو “شعرٌ” قبل أي شيء آخر، و”أَنَّ شعريّتَهُ – كما يعبّر د.وهب روميّة هي التي تجعلُهُ “شعراً”. وتنحصرُ هذه الشعرية وتتجلّى في الوقت نفسه في استخدام اللغة استخداماً كيفيّاً خاصاً يختلفُ عن استخدام الآخرين من غير الأدباء لها. وقد يحمل النص الشعري مواد سياسية واجتماعية وخُلقية وأسطوريّة وتُراثيّة، ولكن هذه المواد أو العناصر مهما تباينت وتنوّعت وبدت غزيرة في النص لا تمنحُ النص شعريتَهُ أو قُل لا تبقى مواد خاماً، بل تغدو عناصر شعريّة.
ليست العِبْرَةُ في الدخول في علاقات التناص مع هذا المصدر التراثي أو ذاك بحد ذاتِها، بقدر ما تتجلّى في حسن الاستفادة من ذلك المصدر، بحيث تحمل عناصره شحناتها الهائلةَ وتصبُّها في النص الجديد، بطرائق ووسائل فنية تجعل تلك العناصر والنصوص الدخيلة طيّعة قابلة للذوبان في النص الجديد دون عناءٍ شديدٍ أو مقاومةٍ باسلة، وقد تصلُ درجة التآلف بين الضيف والمضيف حداً يتماهى عنده كل منهما في الآخر، لتقديم رؤى الشاعر المُنشئ.
جُمان بركات