جدلية الهرولة العربية نحو الصهاينة
عبد الستار قاسم / فلسطين
نعيش الآن موسم هرولة عربية متجددة نحو الكيان الصهيوني، وننشغل كثيراً بهذا الموضوع عسانا نهتدي إلى أسبابه والظروف المحيطة به، علماً أن التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس جديداً، وهو قديم تمتد جذوره إلى العلاقات العربية مع الحركة الصهيونية وقبل إقامة الدولة، أمراء عرب وقادة قبليون أقاموا علاقات مع الحركة الصهيونية قبل عام 1948، وقادة عرب عملوا على تطويع الفلسطينيين وإقناعهم بعدم جدوى التمرد على الانتداب البريطاني، والتسلح في مواجهة المستعمرين والغزاة مثل أمير شرقي الأردن وآل سعود، ونوري السعيد، والملك فاروق ملك مصر المخلوع من قبل عبد الناصر وإخوانه.
الوضع الميداني مختلف الآن عن ذلك الذي ساد قبل عام 1948، لكن الجوهر الجدلي والسيكولوجي لم يتحول جذرياً، فبعد أن كان قادة العرب يرفضون لفظياً وإعلامياً القبول بالصهاينة، تحولوا إلى البحث عن حلول تفاوضية معه، ومن ثم انتقلوا إلى قبول هذا الكيان دون تفاوض أو مقابل، عدد من الأنظمة العربية تسارع لنيل رضى الصهاينة، وتبدي استعدادها لتطوير علاقات معهم، بخاصة من النواحي الاقتصادية، والأمنية، وربما العسكرية في المستقبل غير البعيد، في الوقت ذاته، ترفض هذه الأنظمة المقاومة العربية للكيان، ولديها الاستعداد للتعاون أمنياً معه كما حصل في حرب تموز عام 2006، وفي الحروب المتتالية التي شنها الصهاينة على قطاع غزة.. ما هذا الاندفاع نحو الصهاينة وضد المقاومة؟.
هناك متغيرات على الساحة العربية أهمها عدم قدرة الكيان على تحقيق نصر لا في جنوب لبنان ولا في قطاع غزة، وفشل البلدان العربية الداعمة للإرهاب في العراق وسورية، ومعاناة الكيان الصهيوني من ضعف نسبي أمام القوى العربية الجديدة، عهد الخطابات قد ولى، وزمن انتصارات الكيان قد انتهى، فدق ناقوس الخطر.
أغلب الأنظمة العربية والكيان الصهيوني من منبت واحد، أو كما نقول عن الإخوة إنهم من بطن واحد، وابن بطني يعرف رطني (أي حديثي وآلامي)، أغلب الأنظمة العربية، بخاصة القبلية منها، صنيعة الاستعمار الغربي، الاستعمار البريطاني هو الذي نصب القبائل أمراء وملوكاً على اقطاعيات عربية، وبرمجها بالطريقة التي تخدم مصالحه وتحافظ على الكيان الصهيوني، وهو نفسه الذي صنع الكيان الصهيوني، فإذا كان الكيان الصهيوني هو القاعدة الاستعمارية المتقدمة، فإن العرب هم الوكلاء الطيعون له، وظيفة الكيان الصهيوني تتقدم على وظيفة العرب، لكن وظائفهما تتكامل، أي أن تعاون الكيان الصهيوني والأنظمة العربية لا مفرّ منه وهو تحصيل حاصل، الطرفان لابد أن يخدما المصالح الاستعمارية في النهاية، وسياساتهما لابد تلتقيان، ولو كنا على وعي بربط العلاقات الجدلية لما عوّلنا على الأنظمة العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعديد من القضايا العربية الأخرى، هذا ربط جدلي ينطبق على فكرة الوحدة العربية والسوق العربية المشتركة والدفاع المشترك، وكل القضايا العربية التي لا تتوافق مع الرؤية الاستعمارية للمنطقة، ولهذا لن تقوم للجامعة العربية قائمة أبداً ما دامت الأنظمة التي أفرزها الاستعمار موجودة.
الكيان الصهيوني حريص على الأنظمة العربية واستقرارها لأنها في النهاية لا تدفع الأمور إلى حالة عداء جاد معه، والكيان يعي تماماً كيف أفشلت الأنظمة العربية حرب عام 1948، وفسحت المجال أمامه للتمدد على مساحة أوسع مما قرره قرار تقسيم فلسطين لعام 1947، وهو يعي كيف أن أنظمة العرب لم تحارب عام 1967، وأنها لم تكن مستعدة أصلاً لحرب، لقد تم تفصيل الأنظمة العربية على مقاس المصالح الصهيونية، وأي حالة تغيير في الساحة العربية قد لا تكون لصالح الكيان، والأفضل التمسك بما هو موجود.
معروف أن الكيان قدم خدمات أمنية هامة لعدد من الأنظمة العربية التي كانت تهددها مخططات انقلابية، ووقف مع بعضها في بعض التحديات العسكرية، ووقف مع بعض العرب في الأردن والمغرب ولبنان والسعودية واليمن في ستينيات القرن الماضي.
المقاومة العربية ضد الاحتلال الصهيوني وضد الهيمنة الأمريكية على المنطقة لا تقدم خدمات للأنظمة العربية، بل يمكن أن تضعها في دائرة الخطر، إذا تمكنت المقاومة من هزيمة الاستعمار، بخاصة الأمريكي، فمن الذي سيحمي الأنظمة العربية بعد ذلك، وإذا كان الكيان الصهيوني سيندحر أمام المقاومة، فمن أين تحصل الأنظمة على معلوماتها حول الجهات التي تتطلع إلى الإطاحة بها.
إنجازات المقاومة لا ترضي الأنظمة العربية لأن أثرها المعنوي الجيد سينتشر في الأوساط الشعبية، وستكتسب الجماهير إرادة أقوى على التحدي، ودائماً إنجازات المبدعين تكشف عورات العاجزين، المقاومة سواء في لبنان أو فلسطين كشفت عورات الأنظمة وأكاذيبها ومحاولاتها المستمرة للتظاهر بأنها مع الأشقاء الفلسطينيين، ولهذا لم يكن غريباً أن ترفض الأنظمة الاعتراف بانتصار حزب الله عام 2006، وانتصار المقاومة الفلسطينية أعوام 2008/2009، 2012، 2014، جادلت الأنظمة بأن المقاومة خسرت الحروب بسبب الدمار الهائل الذي ألحقه الكيان الصهيوني بالبنى التحتية، والقتل الذي تعرّض له المدنيون، لكن هذه الأنظمة لم تكن تتحدث عن فشل الصهاينة في تحقيق أهدافهم، معيار كسب الحرب أو خسرانها مرتبط بتحقيق الأهداف ليس إلا.
والجدلية ذاتها تنطبق على إيران، تقدم إيران في المجالات العلمية والتقنية والعسكرية ومجالات الزراعة والصناعة والتعليم، إلخ لا يريح الأنظمة العربية لأن في ذلك ما يدعم مكانة إيران إقليمياً وعالمياً، ما يدفع الأنظمة العربية إلى الخلف حتى عند الذين تدعي أنها تمثّلهم، إيران أرادت أن تصبح قوية وتتخلص من الاستعمار الأمريكي للمنطقة، الأمر الذي لا ترتاح له أغلب الأنظمة العربية، التقدم الإيراني لابد ينعكس على التركيبة الاجتماعية للمنطقة، وعلى الروح المعنوية للناس على امتداد الوطن العربي، وربما تفعل نظرية الدومينو فعلها ضد الأنظمة العربية، بمعنى أن التقدم الإيراني لا يعمل لصالح الأنظمة العربية، ومن مصلحة الأنظمة أن تعمل على تدهوره.
هذه الأنظمة تريد إيران ضعيفة فقط إلى الدرجة التي تبقيها قادرة على مواجهة شعبها وتقديم خدمات أمنية واقتصادية وعسكرية لأمريكا والكيان الصهيوني، أما الكيان الصهيوني فإنه يهدد الأمة العربية، لكنه يحافظ على استقرار الأنظمة بخاصة القبلية، أما المقاومة فتقاتل من أجل الأمة العربية، والقتال من أجل الأمة يهدد الأنظمة، فمع من تصطف الأنظمة؟.