دور الترجمــــة فـــــي الحفــــاظ علــــى التنــــوع الثقافـــــي واللغــــوي
الترجمة هي جسر السلام والتعاون والتنوع الثقافي بين الشعوب، والمترجمون هم حملة مشاعل التفاهم والخير والجمال والعدالة في العالم، ورسالتهم من سورية هي التضامن من أجل تعزيز هذه المثل والقيم في العالم أجمع. وبمناسبة يوم الترجمة العالمي الذي ارتقى في العام الماضي للاعتراف الرسمي به يوماً عالمياً أقامت وزارة الثقافة -الهيئة العامة السورية للكتاب- بالتعاون مع جامعة دمشق- المعهد العالي للترجمة، ومجمع اللغة العربية، واتحاد الكتاب العرب، واتحاد الناشرين السوريين ومركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد”. ندوة تتناول على مدى يومين الترجمة والتعريب ودورهما في الحفاظ على التنوع الثقافي واللغوي والأدب المقارن وعلاقة الترجمة بالنظرية المعرفية” في مكتبة الأسد بدمشق.
وتحدث د.ثائر زين الدين مدير هيئة الكتاب عن أهمية هذا اليوم الذي تحتفل فيه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وأهمية أن تغدو ندوة الترجمة التي تقام احتفاء بهذه المناسبة تقليداً سنوياً يترسخ في حياتنا الثقافية تشارك فيه جميع المؤسسات والهيئات والمهتمين بالترجمة، وهذا دليل وعي عال بأهمية هذه المهنة الإبداعية والعزم على العمل المشترك لخير المهنة وخير الوطن.
وأضاف: سنعمل على تطوير هذه التظاهرة الثقافية والوطنية لتلعب الدور الفاعل والمأمول منها في تطوير الترجمة على الصعيد الوطني لتغدو صناعة متكاملة تسهم في بنائنا الثقافي بكفاءة عالية، وفي سبيل ذلك أطلقنا جائزة سامي الدروبي للترجمة، واستأنفنا إصدار مجلة “جسور ثقافية”، والأهم أطلقنا المشروع الوطني للترجمة كمشروع استراتيجي غير محدد المدة ينفذ بخطط سنوية واقعية، وكلفنا هيئة الكتاب وضع الخطة التنفيذية لعام 2019 التي نأمل أن تكون خطة تنفيذية شاملة، فالترجمة ارتبطت في تاريخنا القومي بالنهوض واليوم كما في الماضي البعيد القريب سنعمل على تطوير الترجمة وحل المشكلات المهنية والقانونية والمالية لتوفير الظروف الأفضل لعمل المترجمين في جميع مجالات عملهم.
جسر تعاون
وأشار مدير الترجمة في الهيئة د. حسام الدين خضور إلى أن هذه الندوة تسلط الضوء على مشكلة أساسية هي ضرورة الحفاظ على التنوع الثقافي واللغوي، وهذه المسألة أصبحت ملّحة بالنسبة للعالم أجمع بفعل الميول السلبية للعولمة، ويرى المتخصصون أن الآلية الأفضل للحفاظ على التنوع الثقافي هي الترجمة لأنها لغة العالم ولسان متعدد اللغات، ولأن الترجمة بذاتها هي اعتراف بالآخر وبناء جسور سلام وتعاون سيتم تقديم أبحاث متعددة من زوايا مختلفة للإضاءة على مسألة دور الترجمة في الحفاظ على هاتين المسألتين في حياة الشعوب.
رسالة المترجمين
وقرأت المترجمة آلاء أبو زراد الحاصلة على جائزة سامي دروبي للترجمة رسالة المترجمين السوريين إلى زملائهم في الوطن العربي والعالم بمناسبة اليوم العالمي للترجمة قالت فيها: هذا هو العام الأول الذي تحتفل فيه الأمم المتحدة رسمياً بيوم الترجمة العالمي، الأمر الذي يمثل أهمية خاصة في ترسيخ الاعتراف بدورنا في تعزيز السلام وترسيخ أسس التعاون والتفاهم بين الشعوب والتنمية والتقدم.
نحن المترجمين السوريين نعمل على تفعيل هذا الدور بترجمة التراث العالمي في الآداب والفنون والعلوم إلى لغتنا التي تحظى بمكانة رفيعة في نادي اللغات العالمي، فهي حافظة كتاب مقدس يؤمن به خمس عدد سكان العالم تقريباً، وحافظة تراث العالم أيضاً، والمخطوطات العربية في متاحف ومكتبات أوروبا وآسيا لا تزال تقدم أسرار تاريخ وإنجازات مئات السنين في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا.
ودعا المترجمون السوريون في رسالتهم المترجمين في الوطن العربي والعالم إلى دعم قضية بلدنا التي تتعرض إلى عدوان إرهابي منذ حوالي ثماني سنوات والمطالبة برفع العقوبات غير القانوينة وغير الأخلاقية عن كاهل شعبنا الذي ألحق هزيمة فادحة بالإرهاب وداعميه إقليمياً ودولياً بتضحيات جيشنا الوطني وحلفائه.
الترجمة والتعريب
وفي الجلسة الأولى للندوة التي أدارتها د. زينب منصور عميد المعهد العالي للترجمة، قدمت د. لبانة مشوح ورقة عمل حول التعريب في التعليم العالي- جامعة دمشق نموذجاً” تضمنت لمحة موجزة عن مكانة الترجمة والتعريب حيث قالت:
من المعروف أن جامعة دمشق كانت رائدة في تعريب التعليم الجامعي، وقد واكبت حركة التأليف العلمي عناية فائقة بسلامة اللغة وجمال الأسلوب فكان الإنجاز الأعظم في مجال تعريب العلوم والتعليم وتوحيد المصطلحات الطبية والبيولوجية “المعجم الطبي الموحد”، وسرعان ما توسعت جامعة دمشق في عملية التعريب ليصبح القانون باللغة العربية، واغتنت المكتبة العربية بمؤلفات في الكيمياء والطب والهندسة بشتى فروعها بالإضافة إلى الاقتصاد والعلوم البيئية والإدارة والتنمية، مما ساعد مؤسسات التعليم العالي على المضي قدماً في مسألة التعريب وتعليمها وقيام بيئة تشريعية دائمة.
وأضافت د.مشوح: إن الجهود المبذولة التي يقوم بها مجمع اللغة العربية في تعريب العلوم وتقريب مفاهيمها من الأذهان توطيناً للمعرفة وحفاظاً على اللغة العربية باستثمار طاقاتها التوليدية وإغناء ألفاظها وجعلها مواكبة لعلوم العصر. ولأن جامعة دمشق رائدة في ميادين التعريب وإدراكاً منها لأهمية الترجمة ونظراً للحاجة الماسة لتراجمة أكفاء مؤهلين، فقد عمدت إلى إحداث المعهد العالي للترجمة والترجمة الفورية الذي يعتمد معايير قبول تفرضها طبيعة العمل الترجمي: فالترجمة ليست مجرد مهنة تمارس كمورد رزق ووسيلة للكسب بقدر ما هي عامل إغناء لغوي وفكري وإسهام حقيقي في نقل المعرفة وأداة انفتاح وتثاقف.
ركن المثاقفة
وتناول د.ممدوح خسارة عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في بحثه العلاقة التكاملية والعضوية التي لا انفكاك لها بين مهام التعريب والترجمة والتنمية اللغوية، وأنها -متلازمةً- طريق العربية إلى المعاصرة المنتجة الخلاقة، وعن دور الترجمة في تعريب تعليم العلوم قال د.خسارة: إن إنجازات التعريب والترجمة مرتبطة بالمصطلح العلمي العربي حيث وضعت مئات الآلاف من المصطلحات، كما أثرت آلاف الكتب المرجعية والمنهجية المترجمة أو المؤلفة في مختلف العلوم، وإن ضعف الترجمة إلى العربية مردّه بالمقام الأول إلى تدريس العلوم بغير العربية في جامعاتنا، مما لا يجعل للكتاب العلمي العربي سوقاً رائجة يقبل عليها المهتمون ولا عائد منها.
وختم د.خسارة بعدد من التوصيات منها: الدعوة إلى تعريب التعليم بكل مراحله في الوطن العربي لأنه الدافع الأعظم لحركة الترجمة وتطويرها، وزيادة الاهتمام بالإعداد اللغوي في مدارسنا وجامعاتنا وتنمية مهارات التعبير الكتابي والشفهي لدى الطلبة، لأن مسألة المصطلح هي -على أهميتها- جزء من قضية أكبر هي قضية البيان اللغوي العربي، وتدريس مقرر “علم المصطلح” في الكليات العلمية وأقسام اللغات العربية والأجنبية ومعاهد الترجمة، لأنه من أهم وسائل معالجة إشكاليات المصطلح العربي، بالإضافة إلى دعم وتقدير مؤسسات الترجمة في الوطن العربي ولا سيما المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف بدمشق ومديريات الترجمة في وزارتي الثقافة والتعليم العالي، واعتبار الترجمة عملاً علمياً بحثياً أصيلاً لا يقل أصالة عن أعمال البحث والتأليف، لأن الترجمة ركن المثاقفة والمعاصرة، واعتبار الأعمال الترجمية لأساتذة الجامعة مؤهلة للترقية الوظيفية بعد تحكيمها أسوة بالبحوث العليمة الأخرى.
بين الماضي والحاضر
ورأى مدرس الترجمة في جامعة دمشق د. ورد حسن أن التعريب بين الماضي والحاضر أحد أهم روافد مفردات اللغة العربية بدءاً من العصر الأموي إذ بدأ العرب يهتمون بالترجمة رغم انشغالهم بالفتوحات والصراعات الداخلية، وأدركوا ضرورة تعريب الدواوين التي ورثوها عن الفرس والروم، وفي العصر العباسي اتسعت حركة التعريب لسببين أساسيين أولهما حالة الاستقرار الكبيرة التي عرفتها الدولة والثاني الحوار الفقهي الدائر بين المسلمين وغير المسلمين، وكان العصر الذهبي للترجمة زمن الخليفة المأمون الذي اهتم بتعريب كتب الفلسفة وأقام بيت الحكمة، أما في عصر النهضة فبدأت حركة التعريب في القرنين التاسع عشر والعشرين والتي أدت إلى دخول مصطلحات تخصصية كثيرة إلى اللغة العربية وكانت الطرق التي اتبعها المترجمون هي الاشتقاق والمجاز والنحت والاقتباس، وفي عصرنا الراهن يمارس العرب شتى أنواع الترجمة التحريرية والشفهية في مختلف الميادين، إلا أن دراسة دقيقة أظهرت ثغرات خطيرة على مستوى الكم والكيف، غير أن التقنيات الحديثة ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في تنسيق تعريب المصطلحات التخصصية.
إغناء اللغة الأم
وتحت عنوان “دور الترجمة في إغناء اللغة الأم” تحدث د.عدنان جاموس أن اللغة العربية أثبتت على مدى العصور أنها قادرة على الصمود في أي معركة تخوضها في ميادين العلم والإبداع، ونشهد في أيامنا تكاثر صيغ لم تكن واسعة الانتشار في الماضي، فقد كان القدماء يضيفون أحياناً “ياء”، وبتأثير الترجمة نلجأ لهذه الصيغة على نطاق واسع، ولا بد من الإشارة إلى ظاهرة سلبية هي ظاهرة فوضى المصطلحات إذ يعمد كل مترجم إلى الاجتهاد الشخصي، وإذا كانت ترجمة النصوص العلمية والفكرية تتطلب بالدرجة الأولى فهم النص واستيعابه ثم ترجمته، فإن ترجمة النصوص الإبداعية تحتاج إلى موهبة إبداعية تعكس في الترجمة كل جديد ابتكره الكاتب في أسلوب التعبير.
وختم د.جاموس قائلاً: ما أحوجنا الآن إلى معجم لغوي معاصر يصدر عن مجمع اللغة العربية بجهود جماعية ليكون منارة هادية ويعطينا صورة واضحة عن اللغة العربية التي أغنت لغات أمم أخرى واغتنت هي نفسها بآلاف الألفاظ.
صناعة الكتاب ودور النشر
وفي الجلسة الثانية التي أدارها د. حسام الدين خضور، تحدث د. ثائر زين الدين عن دور وزارة الثقافة في الترجمة إلى العربية فقال:
أصبح فضل الترجمة الأدبية اليوم من المسلمات في تطوير آداب الأمم ولغاتها، وبفضل مجموعة من الكتب العظيمة التي نُقلت من العربية إلى لغات أوروبا ظهرت ولادة أو تطور أجناس أدبية لم تكن معروفة. والواقع إن الأدب العربي ما كان له أن يصبح بالصورة التي هو عليها اليوم لولا حركة الترجمة في العصر الحديث من اللغات الأوروبية وتوجه المثقفين وبعض المبدعين نحو الغرب المتنور، فقد نقلت حركة الترجمة العربية روائع الأدب العالمي الكلاسيكي وأمهات الكتب الفكرية، ومع تأسيس وزارة الثقافة ظهر واحد من أهم الناشرين بل صانعي المعرفة ومنتجي الثقافة بما فيها الترجمة في الوطن العربي، وسيتصاعد إنتاج هذه الوزارة في مجال الترجمة الذي وصل إنتاجها اليوم إلى 2500 كتاب للكبار والأطفال، واليوم نضع خطة تنفيذية لمشروع وطني طرح في وزارة الثقافة في العام الماضي آملين دمج دور النشر الخاصة معه.
وعن تجربة دار عقل في مجال الترجمة طرحت مديرة الدار عبير عقل أربعة محاور هي: تحديات الترجمة على أصعدة مختلفة كالتحدي القانوني والفني والمادي المتمثل بصعوبة توفير استحقاقات مالية والتحدي الثقافي المتمثل في عملية إقناع القارئ بأهمية الإنتاج المعرفي المترجم.
وتناول المحور الثاني عرضا للطريقة المهنية التي تتعامل فيها الدار مع الترجمة والتي ترتكز على عدة نقاط منها الحصول على موافقة الجهة التي تملك حقوق الطبعة الأجنبية تفادياً لأي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية، والحرص على الترجمة من اللغة الأصلية للكتاب، ومراعاة اختيار مترجمين أصحاب اختصاص في طبيعة موضوع الكتاب أو تأمين اختصاصيين للاستشارة لاحقاً. ويمثل المحور الثالث فلسفة الترجمة في الدار بالنسبة لاختيار النصوص وحجم العمل الترجمي مثل الأعمال الأدبية القديمة أو الكلاسيكية، وكتب التعاليم الباطنية والتنوير الروحي، والكتب المتميزة في مجال منشورات الطفل، أما المحور الرابع فيمثل الفلسفة المستقبلية في مجال الترجمة حيث تطمح الدار إلى السعي لسد فجوة في عملية الترجمة من حيث التركيز على جهود فكرية استثنائية في الشأن الروسي، كما تطمح إلى نقل إنتاج مؤلفيها العرب إلى العالمية مما يعود بالنفع المعنوي والمادي على المؤلفين والدار على حد سواء.
وعن العلاقة بين الناشر والمترجم قال صاحب دار الحافظ ورئيس اتحاد الناشرين السوريين هيثم الحافظ: يجب أن يكون المترجم أحد أساسيات النشر، وفي عملية الترجمة أغلب الصفقات التي تتم عن طريق الناشرين الأجانب الذين يبحثون عن ناشرين كبار يعملون في مجال النشر في سورية، وعلى المترجم أن لا يترجم لوحده دون أي اتفاق حول الملكية الفكرية وعلاقتها بالترجمة والنشر.
ومن أهم الأمور المساعدة لوضع الترجمة في إطارها المعرفي الصحيح قال الحافظ: تخصيص دوائر خاصة للترجمة، ودعم المترجم مادياً ومعنوياً، ودعم الكتب المترجمة في سورية، وإنشاء جوائز خاصة للترجمة، ودعم ترجمة الكتب العلمية، وتأسيس منظمة خاصة للمترجمين، ودعم أو إنشاء بوابة للكتب المقترحة للترجمة، واعتماد شعار للكتب المترجمة ضمن خطة وطنية.
وقد رافق الندوة معرض للكتاب تضمن أحدث الكتب المترجمة في الهيئة العامة للكتاب بحسومات 50%.
جمان بركات- علا أحمد