فاقت التوقعات أقساط التعليم الخاص.. سباق تجاري.. واستثمار في أحلام الناس.. وجودة التعليم والخدمات في مستوى الشعبية
الاستثمار في الإنسان خير استثمار، وبه نبني وطناً قوياً قادراً على مواجهة الضغوطات والمصاعب، ولا يتطلب ذلك سوى الاهتمام بجودة التعليم، والتربية، والتدريب، والبحث العلمي، وهذا يمكن تحقيقه إذا توفرت إدارة متمكنة من أدواتها، تملك العزم لتحقيق أفضل النتائج، فالتعليم هو إحدى أهم الركائز التي تعتمد عليها الأمم لتحقيق التقدم، ولتطوير مجتمعاتها، واليوم لتطوير النظام التعليمي حتى نصل لمنظومة تعليم تتناسب مع المرحلة الحساسة والدقيقة التي نمر بها، وهو الأساس والغاية، خاصة في ظل التطور التكنولوجي الذي أحدث ثورة حقيقية على مستوى العالم ككل، لذلك الطرق التقليدية والحشو والتلقين لم تعد تجدي نفعاً في وقتنا الحالي، وبالتالي لا تتماشى مع المتطلبات الحديثة، كما أن تطوير التعليم ووضع كل الإمكانيات المتاحة في سبيل سير العملية التربوية يجب أن يجعلنا حذرين من أن نضع العملية التربوية بأياد لا تملك الخبرة والحس العالي بالمسؤولية تجاه هذه القضية بالغة الأهمية، وربما هذا ما يحدث اليوم في بعض المدارس، ورياض الأطفال الخاصة التي لا هم لمالكيها سوى جمع الأموال على حساب تطبيق العملية التعليمية والتربوية!.
التعليم للجميع ولكن؟
أظهرت حركة الشهر الأول من العام الدراسي توجه عدد كبير من الأهالي لتسجيل أبنائهم في المدارس والمعاهد الخاصة، وهنا نقصد بالتحديد الطلاب في المرحلة الثانوية (البكالوريا العلمي والأدبي)، وذلك لفقدان الثقة من قبل هؤلاء الأهالي بالمدارس الرسمية التي بات معظم الأساتذة فيها يتجهون للدروس الخصوصية، وهذا ما لا يخفى على أحد، فهي سنة مصيرية يتحدد فيها مستقبل الطالب، لذلك أصبح التوجه نحو المدرسة أو المعهد الخاص في هذه السنة ضرورياً وحتمياً من قبل الكثيرين ، وأصبح شعار التعليم للجميع لا يطبق إلا في حدوده الدنيا، الأستاذ محمد عواد، موظف في إحدى الشركات الخاصة، لديه ابنة في الصف الثالث الثانوي العلمي تحدث عن المعاناة التي لم تقتصر فقط على البحث عن مدرسة جيدة، وإنما أيضاً على دفع مبالغ كبيرة للدورات الصيفية التي خضعت لها ابنته، وللأقساط الإضافية للمدرسة خلال العام الدراسي، فهو من سكان صحنايا، ويوجد معهد سيضطر لتسجيل ابنته فيه لأنه لا يملك القدرة على تسجيلها في مدرسة يصل قسطها السنوي إلى حوالي ستمئة ألف ليرة، مضيفاً بأن هذا المعهد يعاني من الضغط الكبير من قبل الطلاب عليه، حيث يصل عدد الطلاب في الصف إلى أكثر من عشرين، والصف عبارة عن غرفة صغيرة لا توجد فيها تدفئة ولا تكييف، أصبحنا نحسب حساب الشهادة الثانوية قبل أن يصل أولادنا إليها، يضيف بكثير من الحسرة، فالمعدلات المرتفعة للقبول الجامعي تجعل الأهل والطلاب تحت تأثير الضغط النفسي، خاصة أننا لا قدرة لنا على الجامعات الخاصة.
هدف تجاري بحت
هل يعقل أن يصل قسط بعض رياض الأطفال في سورية إلى حوالي أربعمئة ألف ليرة سورية، هذا عدا عن أجور النقل، والقرطاسية، واللباس، تتحدث السيدة بتول عن روضة فرند في منطقة المزة فيلات التي يصل القسط الشهري فيها لأربعين ألفاً، والتي تفاجأت عند تسجيل ابنتها فيها أن إدارة الروضة طلبت منها مبلغ خمسين ألفاً للباس الذي كان عبارة عن “تيشرت” فقط، وقرطاسية، وتأمين صحي، أما أجور النقل فبلغت مئة وستين ألف ليرة، إضافة إلى الطلبات الأخرى خلال السنة كاصطحاب الأطفال إلى حديقة أو نشاط ترفيهي معين خارج الروضة، وطبعاً هذه النشاطات تعتبر مصاريف خارجية إضافية، ما زاد العبء المادي عليها، متسائلة: أين الرقابة المفروضة؟.
وبالتأكيد تختلف الأقساط والتكاليف بين منطقة وأخرى بغض النظر عما يتم تقديمه في تلك المدارس، ورياض الأطفال الخاصة، فمدارس تبلغ أقساطها حوالي سبعمئة ألف ليرة، وأخرى تصل للمليون، ومدارس أخرى تتراوح بين أربعمئة ألف، فما هي القيمة المضافة التي تقدمها هذه المدارس لطلابها؟ وهل تخرّج طلاباً متميزين عن أقرانهم في المدارس الحكومية؟!.
هل استطاع التعليم الخاص حل أزمة في ظل غياب التعليم الحكومي في بعض المناطق التي تعرّضت للحصار؟.
الدكتور سليمان عوض، دكتور الاقتصاد في جامعة حلب، يشير إلى أن وجود بعض المدارس الخاصة والمعاهد في حلب خلال فترة الحصار عليها حل أزمة غياب جودة التعليم العام في بعض المناطق في المدينة، مع التأكيد أن التكاليف كانت كبيرة على الأهل، ولكن كانت بارقة الأمل الوحيدة في وقتها، فمثلاً أحد المعاهد الخاصة كانت نسبة الحاصلين فيه على أكثر من 200 علامة تمثّل ربع طلاب المعهد في الشهادة الثانوية، خاصة في ظل شبه إغلاق للمدرسة الحكومية بسبب استهدافها بالقذائف من قبل الإرهابيين، مضيفاً: هناك نقص شديد في عدد المدرّسين، ونحن جميعاً مع إعادة الجودة للتعليم العام، ومن ثم تخفيف ظاهرة التعليم الخاص تدريجياً التي أصبحت متفاوتة التكلفة حسب الحي والمنطقة، حيث تصل في الأحياء متوسطة الدخل إلى 150 ألف ليرة، وفي الأحياء الأكثر غنى لحوالي 400 ألف ليرة، وهذه طبعاً مدارس غير مرخصة، أما بالنسبة للمدارس المرخصة فتصل لحوالي 600 ألف ليرة، ويجب أيضاً أن نشير إلى أن بعض المدرّسين يصل دخلهم السنوي من طالب واحد فقط إلى 300 ألف ليرة وسطياً، خاصة أساتذة اللغات، والمواد العلمية الذين يدرّسون في أكثر من مدرسة ومعهد، ولم نذكر تكاليف تصوير “النوط” المرتفعة، وعلى وزارة التربية أن تحسن جودة التعليم العام، وتحاسب المقصرين، لأن الأهالي يتم استنزافهم مادياً، وأحياناً من دون تحقيق نتيجة مرضية لأبنائهم.
تفاوت الأقساط بين المدارس؟
تحدث الأستاذ غيث شيكاغي، مدير التعليم الخاص في وزارة التربية، موضحاً أن التعليم الخاص ملزم بالتعاقد مع العاملين ذوي الكفاءات والمؤهلات العلمية في كافة مراحله، مضيفاً: قضت المادة 45 من المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2004 بأن تحدد الأقساط التي يحق لمؤسسات التعليم الخاص أن تتقاضاها من الطلبة المسجلين فيها بحسب التصنيف المحدد لهذه المؤسسات، ومخرجاتها التعليمية، والأقساط المدرسية تجبى من قبل المؤسسات التعليمية الخاصة في المادة 37 من التعليمات التنفيذية للمرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2004 المتضمنة وجوب التزام المؤسسة التعليمية الخاصة قبل بداية تسجيل الطلاب في كل عام بالحصول على موافقة الوزارة على الأقساط المدرسية السنوية المحددة من قبلها لكل مرحلة، وإعلانها بشكل بارز في لوحة الإعلانات الخاصة بالمؤسسة، وعلى أن يشمل القسط الرعاية الصحية، والخدمات التعليمية، وثمن القرطاسية، ورسم التسجيل، أما بالنسبة لأجور الخدمات الأخرى، والميزات الإضافية، بما فيها أجور نقل الطلاب، وثمن الألبسة، والكتب الإثرائية، فعلى المؤسسة إعلام المديرية، وأولياء الأمور بها سنوياً قبل التسجيل، ويعد حجب هذه المعلومات مخالفة صريحة توجب المساءلة في ضوء المواد ذات الصلة، والفوارق تعود إلى تصنيفها من أجل تعزيز وتعميق روح المنافسة الخلاقة بين المؤسسات التعليمية الخاصة نحو الأفضل في المجالات الإدارية، والتربوية، والخدمات المقدمة للطلاب.
“التعليم العام هو وسيلة الدولة الأساسية لإنشاء جيل منتم لوطنه”، بهذه الكلمات بدأ الباحث الاقتصادي الدكتور عمار يوسف حديثه، متابعاً: لا يمكننا بأي حال مقارنة جودة التعليم الخاص بالتعليم العام، خاصة ما قبل عام 2002 الذي كان أكثر تميزاً وأكثر إنتاجية، ما دفع البعض لعرقلة التعليم العام لحساب التعليم الخاص لإرغام الأهالي على توجيه أبنائهم للتعليم الخاص باعتباره الملاذ الآمن الذي يحقق لهم حداً أدنى من الدراسة، والمعلومات التي قد تؤهلهم لإحراز معدل جيد في الثانوية العامة، والتي تعتبر سنة تحديد مصير للطلاب، والمعيار الأساسي لجودة الطالب هو جودة المدرسة والمدرّس، وهنا نؤكد أن هذه الجودة أصبحت مفقودة في التعليم العام نتيجة ظروف الحرب، علماً بأن آلاف الخريجين في الجامعات يدخلون إلى سوق العمل التربوي، لكن وزارة التربية تفضل أن تبقى هذه الكوادر في الشوارع بدلاً من الاستفادة منها في قطاع التعليم، إضافة إلى ضعف رواتب ما يسمون وكلاء، والتي لا تكفي أجور الطريق، ومن هنا أرى أن التعليم الخاص مشروع تجاري الهدف الأساسي منه الربح، فثقافة الخدمة العامة في التعليم الخاص غير موجودة، بل على العكس تماماً يحاول قطاع التعليم الخاص ابتزاز الأهالي ما أمكنهم ذلك، وبالتالي تحول قطاع التعليم الخاص كما غيره إلى تجارة في ظل ظروف الحرب التي نمر بها، وأصبح ارتفاع الأسعار وتضاعفها السمة الغالبة على هذا القطاع، وابتزاز الأهالي من حيث إلزامهم بالقرطاسية، واللباس، والنقل، وسيلة أخرى للربح غير المنطقي الذي يزيد من الأعباء المادية على الأهل، وأصبحت بعض المدارس نتيجة أسمائها الأجنبية أو الطلاب من أبناء طبقة معينة فيها سبباً لتضاعف من أقساطها، ما يزيد الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع الواحد.
أسس ومعايير
إن تقدم وارتقاء أي بلد مرتبط وبشكل أساسي بمدى تطور التعليم فيه، وبمدى أحقيته للجميع، وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي نمر بها على جميع المؤسسات المعنية أخذ الموضوع بكثير من الدقة والاهتمام، لأن ما تعرّض له أطفال سورية في هذه الحرب من ظروف مأساوية يحتم علينا بذل كل الجهود والطاقات لتوفير كل ما يلزم لمتابعة تعليمهم وفق أسس ومعايير قادرة على إنشاء جيل متوازن وسوي، لذلك من الضرورة بمكان العودة إلى إيلاء التعليم العام كل الاهتمام، وعدم وضعه في إطار المنافسة، وإعادة ثقة الجميع به كما كان في سابق عهده.
لينا عدرة