الابتذال السياسي في طبعته الأحدث
لا يخرج تجدّد الطلب الأمريكي من بعض أطراف ما يسمى بالتحالف الدولي لإبقاء قواتها في سورية عن سياق السياسة الأمريكية في طورها “الجشعي” الترامبي، وبغض النظر عن كونه دعوة غير شرعية ممن لا يملك لمن لا يستحق، فإنه وإن كان من أحد جوانبه جزءاً من محاولة أمريكية علنية لتحميل عبء سياساتها الامبراطورية على الحلفاء والأتباع في المنطقة والعالم، إلا أنه من جانب آخر صورة معبّرة عن ملهاة، ومأساة، المشهد الدولي الحالي وابتذاله الشديد في الحقبة “الترامبية” الحالية التي تعبّر في جوهرها وممارساتها عن انحطاط وابتذال كامل للسياسة، نزولاً من مفهوم الأمم المتحدة ومبادئها وحقوق السيادة الوطنية التي تمنع الغير من التدخّل في الشؤون الداخلية إلا بقرار أممي ملزم ولأسباب محددة، إلى الدرك الذي وصلت إليه باعتبارها مجرد عملية بلطجة فجّة، يمارسها بعض ساسة الصفقات الذين وصلوا إلى مناصبهم بقوة الشعبوية ودفعها لا بكفاءة الإنجاز وقيمته.
ولأن التاريخ لا تحرّكه الصدفة، كما يقال، فقد كان من المعبّر للغاية أن يتزامن تجدّد هذا الطلب الأمريكي المبتذل، مع ابتذال آخر كشفته الصور غير اللائقة التي انتشرت بالأمس للرئيس الفرنسي في إحدى رحلاته الخارجية، لتكون خير معبّر لصورة ومكانة دولة أخرى تمتلك حق النقض والتقرير، ولو الشكلي، في العالم المعاصر، والتي وصلت، بحسب أحد الفرنسيين، “إلى القاع”، وذلك أمر طبيعي للغاية، في ظل ساسة “أصبحت البدلة واسعة جداً” عليهم، كما قال أحد المعلقين على الصور المسيئة.
وإذا كان العالم، ومن ضمنه أمريكيون كثر، قالوا في “ترامب” ما لم يقله مالك في الخمرة، إلا أن الفرنسيين كانوا أكثر دقة في وصف رئيسهم، وحال بلدهم، حين قال أحدهم: “تقريباً لم يبق أي شيء. فقط أشلاء الكرامة، التي فقدت في ليلة من الابتذال”.
وبالطبع فإن الابتذال لا يقتصر على هذين الطرفين، بل هو سمة هذا العصر في مرحلة السيولة السياسية الانتقالية التي يعيشها بين نظامين دوليين مختلفين، إلا أن ما يعنينا هنا أن الابتذال الأمريكي الجديد هو محاولة جديدة لإطالة أمد الأزمة في سورية، التي أصبحت في مراحلها العسكرية الأخيرة، ومنع الانتقال إلى المسار السياسي إذا لم تكن لديها الكلمة العليا في مخرجاته ونتائجه، مهدّدة بتواجدها العسكري المباشر، مع فرنسا وغيرها، في منطقة جغرافية محدّدة تحيي فيها حلم التقسيم عبر دعم قوى أمر واقع معين، أو تنشر منها الفوضى بواسطة الأذرع الإرهابية “الداعشية” التي أصبحت منطقة “التنف” محمية أمريكية لتجميع قواته وتدريبها وإعادة توجيهها، وبالطبع بغطاء مذهبي وتمويل نقدي تؤمّنه بعض دول الخليج صاغرة تحت طائلة التهديد برفع سقف الحماية الأمريكية عن عروشها المذهبة.
وبهذا، تستدخل واشنطن قوى عدة في مسار دعم سياستها، بالرغم من مصالح بعض هذه القوى الحقيقية والطويلة الأمد، فـ”ترامب” إذ يدفع باريس نحو مزيد من التورّط العسكري في سورية، إنما يضعها في صدام مع مصالحها الحقيقية في المنطقة، فيما التمويل الخرافي لكل مشاريعه ومطامعه بدأ يستنزف خزائن الخليج، وبدوره لن يكون التقسيم – وهو حلم بعيد المنال- في صالح أي سوري على المدى الطويل، لكن ذلك كله ضروري، كما أسلفنا، سواء في سياق الحفاظ على الامبراطورية المهيمنة كقوة أولى في العالم، أو في السياق السياسي الداخلي لنجدة ترامب في مشاكله المتعددة والمتداخلة.
هو ابتذال إذاً، لكن قدرنا أن نتعامل مع تبعاته الراهنة والمستقبلية، خاصة وأن بعضه عربي للأسف، فماذا مثلاً عن الابتذال في صور الحكام العرب، وهم في حضرة “ترامب” بانتظار أوامره لتحرير الشيكات بالمبالغ المطلوبة، أو لتجميع جيوشهم في “ناتو” عربي لخدمة مخططاته ومشاريعه؟!!. وإذ نعرف، جميعاً، أن الكرسي واسع عليهم، لكن المفجع أنه حتى “أشلاء الكرامة” تغيب هنا، وتلك قمة الابتذال، بل قاعه الذي لا قرار له.
أحمد حسن