وداعاً إبراهيم الجرادي: “لست محظوظاً لكي أغفو على وترٍ وناي”
فُجِعَت الأوساط الثقافية في سورية مؤخراً برحيل الشاعر إبراهيم الجرادى عن عمر ناهز الـ 67 عاماً بعد رحلة مليئة بالعطاء الأدبي، ويُعدّ الراحل أحد أهم رواد العمل الثقافي في سورية و من أبرز شعراء جيل السبعينيات، وقد نعتْه حفيدته نوّار على حسابها في الفيس بوك مرددة ما قاله:
“لستُ محظوظاً لأنّيْ/كلّما أسْلَمْتُ أسراري لأهلي ساءَ ظني/غادروني/قبلَ ميعادِ الأسى واستدركوني/بالعذاباتِ/وصوتُ اللهِ فيَّ/كلما ملَّحَني الدَمعُ وفاضتْ في عيوني شهوةُ التابوتِ/أهلي اسْتَعْذَبوني/وأنا/أمشي/إلى/نعشي/وتتبعني خُطايْ/لست محظوظاً لكي أغفو على وترٍ وناي”…
شطحات البسطامي
كان الراحل الجرادي قد بدأ الكتابة الأدبية أواخر الستينيات في الصحف والمجلات، وتُعد “شطحات البسطامي” أولى قصائده التي نشرها في مجلة “الآداب” البيروتية، ويومها غامر الجرادي بشراء كل نسخ العدد التي وصلت إلى الرقة ليوزعها على أصدقائه وهو الذي كان أيضاً يسافر كل ثلاثة أشهر إلى حلب صباحاً والعودة مساءً لشراء العدد الجديد من مجلة “شعر”.
وعن نشأته في تل أبيض في محافظة الرقة يقول في أحد حواراته: “نشأتُ في منطقة لا تقرأ ويسيطر فيها الموروث الشفوي والغناء الشعبي” كما يذكر أنه تأثر بأخيه الذي كان يجمع في دفاتره مختارات من الشعر العربي القديم، فصار يجمع في دفاتر صغيرة مختارات من هذا الشعر، ثم قادته مأساة عائلية للانتقال من الرقة إلى قرية المشلب التي عُرِف أهلها بالثقافة وبمشاركتهم الواسعة في الحياة الاجتماعية، وهناك كان محاطاً ببعض المثقفين اليساريين الذين بدؤوا يعيرونه الكتب، وبدأت قراءاته لميلاد حنا وميلاد الشايب وسعيد حورانية ونزار قباني، وكان ما زال في المرحلة الإعدادية، ليتعرف فيما بعد إلى مجموعة من الشباب ويبدأ بتبادل الكتب، وأصبحت القراءة عنده حالة يومية، ثم اختار كل منهم طريقه، فهناك من ذهب إلى القصة وهناك من ذهب إلى النقد والرواية، وهناك من ذهب إلى الشعر، وهو منهم، كما أسس في الرقة مع مجموعة من الشباب ما سمي بجماعة ثورة الحرف عام 1968 محاولاً الخروج خارج حدود الرقة كمدينة بعيدة عن النشاط الثقافي للمدن السورية الكبيرة.
الأْعمال الخالدة والألم الإنساني
تُعد مأساة مقتل أخيه في الرقة على خلفية نزاع على حدود أرض زراعية ندبة حملها في ذاكرته حتى آخر لحظة في حياته.. يقول في أحد حواراته: “طلقتان اثنتان.. طلقتان فقط، في ذلك المساء الكئيب، ما زال صداهما يتغلغل في روحي، ويستقر كالكسل في ضلوعي، فيزيد من ألمي وسخطي اللذين لم أستطع التخفف من ثقلهما رغم مرور نحو خمسين عاماً على الواقعة” مؤكداً أنه يعيد الكتابة إلى مصادر حياتية تستدعي الألم الذي يجده دافعاً حقيقياً لكتابة الشعر ليعلن اليأس شكلاً من أشكال التفاؤل، فالألم برأيه يجعل الإنسان أكثر شفافية وإحساساً بالآخرين وأكثر تعاطفاً مع الآخر، وكذلك مصادر للكتابة وأن الأْعمال الخالدة هي أْعمال مرتبطة بألم الإنسان، وأنه لا يقصد بالألم النواح أو استدرار عطف القارئ أو المتلقي، ولذلك كان يدعو إلى أن يكون الإحساس بالآخرين ليس دافعاً للكتابة فحسب بل صورة للنفس البشرية في سعيها نحو الخلاص من أسباب عذاب الإنسان ومحنته.
شعراء الطنين والأرصفة
كان الراحل يعتقد أن الشكل على أهميته لا يعطي قيمة لأي نص، وأن بعض الشباب المتحمسين جداً لقصيدة النثر يظنون أن تخليهم عن الوزن والقافية يفتح أمامهم باب الحداثة، لكنه ضيق على الكثيرين منهم، وكان يرى أن المزج بين النثر والإيقاع ليس تهمة، فللشاعر الحرية في أن يختار طريقة حياته وموته أيضاً، وإذا كانت قصيدة النثر هي السائدة الآن فهذا لا يعني أن الأشكال الجمالية الأخرى عليها أن تنحسر، فهو لا يؤمن بالقطيعة في الأدب، فالشعر العربي الحديث برأيه استمرار لامرئ القيس وطرفة بن العبد والنفري والحلاج.. وحول كتابة قصيدة التفعيلة التي أصبحت في نظر البعض تهمة كان يؤكد أن هذا الكلام يطلقه شعراء الطنين والأرصفة، وبالتالي لا أحد يستطيع أن يفرض ذائقته الخاصة على من لا يحتملها، فالجميل جميل بغضِّ النظر عن الشكل، لذلك فإن هذه التهمة نوع من المماحكات لتزجية الوقت لمن لا يغوصون عميقاً في الأبعاد الأساسية للاختيارات الجمالية، مبيناً أن الشعر حالة جمالية تقبل أشكالاً وأذواقاً متنوعة، وأن الذوق مكتسب وموروث ويلعب دوراً أساسياً في تحديد الاتجاهات الحياتية والشعرية.. من هنا كان الراحل يمزج في شعره بين التفعيلة والنثر مشكِّلاً إيقاعاً خاصاً دون أن يكون متورطاً في أيّ من الجهتين لأنه كان يكتب الشعر في إطار موروثه العربي الأصيل، فكان من أوائل الذين رسخوا قصيدة النثر، ومع هذا كان لا يعتبرها يوماً خروجاً عن المتوارث، وخصوصاً الإيقاعي، فإلغاء منجزات الشعر العربي لا يكفي برأيه لكتابة قصيدة جيدة، لذلك كتب قصيدة التفعيلة كما كتب قصيدة النثر.
أدب الجماليات
وعن التجريب في شعره كان يردد الراحل أنه ليس من ابتكر هذه الطريقة، فقد كانت هناك محاولات سابقة، لكنه كان راغباً في إلغاء الفوارق بين أشكال التعبير باستخدام أكثر الممكنات المؤثرة لإيجاد نص مخلوط لعله يصل إلى الناس، ولاسيما أن هناك عزوفاً عن الشعر لأسباب كثيرة، منها انتشار الوسائل السمعية البصرية، وتغير ذائقة الناس، وقد بدأ هذه التجربة في الثمانينيات انطلاقاً من فكرة أن الأدب الحديث هو أدب الجماليات التي لا تكتفي بالنص المكتوب فقط، : “فإخراج الكتاب وتزيينه وما يسمى بالعتبات النصية والعوامل المساعدة الأخرى مهمة لتقريب النص من القارئ” معتقداً أن ابتكار أشكال جديدة هو استجابة لطبيعة الحياة.
التراث ليس عبئاً
كان الراحل إبراهيم الجرادي يؤكد دوماً على أن الحداثة نفسها تقوم على الأسئلة وليس لديها إجابات نهائية، وهي مرتبطة بتطور الأفكار واختلاف المواقف والمفاهيم، وهو يعني بالحداثة الخروج من قيم الماضي السيئة التي تعرقل حياتنا اليومية في حاضرها، وهي مطلب اجتماعي وإن كان يستند إلى أبعاد فلسفية وفكرية، وبالتالي فإن سؤال الحداثة ليس سؤالاً شعرياً فقط وهو أوسع بكثير لأنه مرتبط بالحياة التي هي أثمن من التنظير لها، ومشروع الحداثة يشترط نهوضاً عاماً، إذ لا يمكن أن تكون حداثياً في شأن وغير حداثي في شأن آخر، أما الماضي فعلى صعيد التنظير نستطيع برأيه أن نرفض أشياء كثيرة من الماضي وحتى من الحاضر، ولكنه كان يظن أننا لا نستطيع أن نوقف تأثيرها فينا لأن التراث ليس عبئاً إلا إذا أراد أن يكون كذلك: “هو ثابت، وعليك أن تتغير” وليس من الخير -كما كان يرى- أن نشغل أكثر من اللازم بالماضي كبواعث ودوافع للحاضر: “نحن ماضويون بشكل أو آخر وعلينا أن ننتمي إلى الحاضر، وإذا كان هناك ما يخدم هذا الحاضر فلا مانع من استثماره”.
أنا عربي
“أنا عربي وهذه الصفة ليست عابرة وطارئة” هكذا وصف الشاعر الجرادي نفسه، مؤكدًا التزامه بقضايا الأمة العربية في أحد اللقاءات الصحفية، مؤكداً أنه لا يستطيع أن يتجاهل ما يجري في فلسطين والعراق وفي أماكن أخرى، معترفاً وهو صاحب النزعة اليسارية الواضحة ذات البعد الإنساني بأن لديه هماً قومياً، فالحرية برأيه أهم من الكتابة عنها، مثلما المرأة أهم من الكتابة عنها، ولذلك كان يقول إن أي شعر أو أي فن لا يخدم قضية الإنسان العربي هو معنى جمالي طفا مثل الرغوة التي تتلاشى بعد حين، وأن شروط الحياة الإنسانية الكريمة تفرض عليه ذلك، فصحيح أن اللغة الأيديولوجية العالية التي سادت في فترة الستينيات أدت برأيه إلى اضمحلال شخصية الشاعر، فأصبح الشعر ظلاً لصوت الجماعة، ولكن منذ ذلك الوقت وحتى اليوم نتحدث عن الذاتي والهم الصغير تحت ستار القصيدة الشفوية، وهو أمر مهم بالطبع، ولكن الأهم هو الحديث عن هموم هذا الكيان البشري الهائل الذي ننتمي إليه لأن هذا ما يجعل الأدب خالداً.. وبرأيه أنه إذا تعارضت الذات مع المجموع فإن الكتابة عنها غير مفيد.
إبراهيم الجرادي
ولد في بندرخان (تل أبيض-الرقة) عام 1951 تلقى تعليمه في الرقة ومن ثم الاتحاد السوفييتي، وعمل محرراً أدبياً، ثم نال الدكتوراه وعمل مدرساً في الجامعات اليمنية، وهو عضو جمعية الشعر في اتحاد الكتّاب العرب .
من مؤلفاته: أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة (شعر) رجل يستحم بامرأة (شعر) الدم ليس أحمر (قصص من الرقة) شهوة الضد (قصائد) موكب من رذاذ المودة والشبهات (ريبورتاجات شعرية مع إبراهيم الخليل) شعراء وقصائد (مختارات من الشعر السوفييتي المعاصر) أوجاع رسول حمزاتوف (ترجمة وتقديم) دراسات في أدب عبد السلام العجيلي (تحرير وتقديم وإشراف) الأشكال في الشعرين الروسي والعربي-بالروسية (رسالة دكتوراه) عويل الحواس (ريبورتاجات سمعية بصرية) الحداثة المتوازنة دراسات في أدب عبد العزيز المقالح (تحرير وتقديم وإشراف).
أمينة عباس