أسقطت وهم الجيش الذي لا يقهر الحرب العربية الأولى.. أحداث عسكرية فريدة وكسر لخطوط العدو المحصنة
“الحرب العربية الأولى” هو مصطلح أطلقه العديد من المؤرخين العسكريين على حرب تشرين التحريرية سنة 1973، مقارنة بالحروب الثلاث التي سبقتها: (حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967)، والتي كانت إسرائيل في هذه الحروب هي المبادرة، بينما كان العرب في حالة ردة الفعل ومجابهة العدوان، وتكتسب حرب تشرين التحريرية أهميتها من عدة عوامل وأسباب أهمها: تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وامتلاك زمام المبادرة، وأكدت أن إرادة الشعوب لا يمكن أن تقهر أو تهزم مهما بلغت تضحياتهم الجسام.
عنصر المفاجأة
إن الأهمية التي توليها الأكاديميات العسكرية لحرب تشرين التحريرية نابعة من أنها الحرب الحديثة التي جرت خلال فترة الحرب الباردة، وعند دخول الثورة التقنية العسكرية مجال التطبيق العملي في مطلع السبعينيات، وفي دراسة وثائقية أعدها العميد الركن الدكتور رزق الياس الذي ساهم في هذه الحرب كضابط أركان في إدارة الاستطلاع، أشار إلى أسباب اختيار يوم السادس من تشرين لخوض الحرب فقال: تم اختيار يوم 6 تشرين الأول/اكتوبر1973 لبدء الحرب لتوفر عدة مزايا في هذا اليوم، أولها أنه يصادف يوم 6 تشرين يوم السبت، وهو يوم عطلة لدى العدو الإسرائيلي، وعادة ما تكون الجاهزية القتالية الإسرائيلية منخفضة في هذا اليوم، وكذلك يصادف يوم السبت في 6 تشرين يوم عيد الغفران لدى الإسرائيليين، حيث تكون نسبة إجازات العسكريين كبيرة، وفي هذا اليوم سيكون القمر بدراً، ما يساعد على تنفيذ الأعمال القتالية ليلاً، وكذلك ملاءمة المد والجزر لعبور القوارب في قناة السويس، ووقوع هذا اليوم خلال شهر الصيام في رمضان (العاشر من رمضان)، حيث لا يتوقع العدو لجوء القوات العربية للحرب.
ويضيف الياس في دراسته بأن هذه الحرب تميزت بأحداث عسكرية فريدة معظمها حدث للمرة الأولى، منها تحقيق المفاجأة الاستراتيجية التامة، وتحييد تأثير التفوق الجوي الإسرائيلي على الجبهتين السورية والمصرية عن طريق استخدام منظومات الدفاع الجوي الروسية الحديثة والمتكاملة، وكذلك صد الضربات المعاكسة الإسرائيلية المتفوقة بالدبابات عن طريق استخدام تشكيلات المشاة المسلحة بالصواريخ م/د، واحتلال خطوط محصنة في خط الدفاع الأول بأسلوب الإنزالات الجوية الرأسية، تحرير القوات السورية لجبل الشيخ وتل الفرس، واتساع أبعاد الحرب إلى درجة مشاركة معظم الدول العربية بقوات رمزية، واستخدام الحرب الاقتصادية (سلاح البترول العربي، وإغلاق مضيق باب المندب) كوسيلة ضغط لإنهاء الحرب بشروط محددة، وتحول الحرب على الجبهة السورية إلى حرب استنزاف استمرت حوالي خمسة أشهر، اضطرت بعدها إسرائيل إلى الانسحاب من الجيب المحتل ومدينة القنيطرة.
شباب متحمس
في الساعة 13.50 أعطيت الأوامر للطائرات القاذفة المقاتلة بالإقلاع من مطاراتها باتجاه المواقع الإسرائيلية المقرر قصفها في هضبة الجولان، كما أعطيت الأوامر إلى قادة التشكيلات وقطعات المدفعية ببدء التمهيد الناري على أغراض العدو المحددة في الجولان، وفي تلك اللحظة عبّرت صيحة “الله أكبر” التي أطلقتها حناجر القادة والجنود عن الشوق الشديد لبدء معركة التحرير والتصميم على تحقيق النصر، وفي الساعة 1400 من يوم 6/10 بدأت القوات التمهيد المدفعي للهجوم باشتراك 1152 مدفعاً وهاوناً.
العميد المتقاعد رياض عقل، اختصاص دفاع جوي، قال: كانت المنطقة الجنوبية السورية قبل حرب تشرين هي منطقة تدريب للطيران الصهيوني، وعندما بدأت التحضيرات للمعركة تمت إقامة تشكيلات جديدة، واتبع المقاتلون دورة على سلاح جديد/الفولكا/، وبيّن أن سلاح الدفاع الجوي عمل متكامل جماعي، وقد قامت الدفاعات الجوية بدور فعال، حيث لم تسمح للطيران المعادي باختراق الأجواء، وشكّلت قوة ردع منعت العدو من تحقيق أهدافه، مشيراً إلى أن الدفاع الجوي كان عنصر المفاجأة الأكبر للعدو، حيث كان له الدور الأبرز في تغيير سير المعركة من خلال إسقاط عشرات الطائرات المعادية.
تحرير المرصد
العميد المتقاعد نايف العاقل، الحاصل على وسام بطل الجمهورية، والذي كان له شرف رفع العلم السوري فوق مرصد جبل الشيخ، والذي تحدث عن تلك الأيام الخالدة، وكيف تم الاستعداد للحرب، واستذكر لحظات المجد حين رفرف العلم العربي السوري فوق جبل الشيخ، قال: إن مرصد جبل الشيخ حصن منيع مؤلف من ثلاث طبقات تحت الأرض، وطابق فوقها، يرتفع عن سطح البحر نحو 2600 متر، أنشأه الكيان الصهيوني بعد عدوان حزيران عام 1967 لمراقبة التحركات على طول الجبهة السورية من الشمال إلى الجنوب، وهو مجهز بأحدث أجهزة التنصت والتشويش، ومجهز هندسياً بحيث لا يتأثر بضربات الطيران والمدفعية من خلال الاسمنت المسلح والحجارة البازلتية الملفوفة بشبكة من الأسلاك المعدنية للحفاظ على تماسكها، وهو محاط بأسلاك شائكة مع ألغام مضادة للأفراد والدبابات، إضافة إلى محارس خارجية، وساحة صغيرة لهبوط الحوامات، وطريق معبد يصل المرصد بالأراضي المحتلة، إضافة إلى مستودعات مجهزة بأبواب حديدية، ولا يمكن الدخول إلى المرصد إلا عبر منفذ واحد.
يشرح العاقل عملية التحضير لتحرير المرصد، حيث تم التركيز على رفع اللياقة البدنية للمقاتل، حيث كان يتدرب حاملاً أكثر من وحدة نارية، إضافة إلى الاستخدام الجيد للأرض، والتدرب على الرمي، وخاصة على الأسلحة المضادة للدبابات، وكذلك التركيز على رفع الروح المعنوية والقتالية لدى المقاتلين.
وأشار العاقل إلى أن البطولات الفردية التي شهدتها المعارك أثبتت شجاعة المقاتل السوري وكفاءته وقدراته الكبيرة على استخدام السلاح، وأكد أن إصرار المقاتلين على صد الهجوم والتشبث بمواقعهم ورفض التراجع أدى إلى سقوط عدد من الشهداء الذين فضّلوا الشهادة على التراجع، وصنعوا من أجسادهم جسراً عبرت من خلاله الأجيال إلى بر العزة والكرامة، وأعاد التأكيد على أن المقاتل العربي في الجبهة السورية والمصرية استطاع تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وبرز ذلك جلياً في المواجهات التي تقابل فيها مع العدو وجهاً لوجه، واستطاع التغلب عليه، وأظهر شجاعته وإيمانه بالأهداف، فكان الانتصار.
أعمال بطولية
دُمر للعدو الإسرائيلي في نهاية الحرب 102 طائرة مقاتلة قاذفة حسب اعترافه، سقط ثلثا هذه الطائرات في جبهة الجولان، وكانت أسباب سقوطها بوساطة الصواريخ أرض- جو، وبوساطة نيران الدفاع الجوي، وبوساطة المعارك الجوية.
كمال عربي، طيار مشارك في الحرب، يقول: إنه كان في إحدى القواعد الأساسية التي تضم أكثر من 100 طائرة من مختلف الصنوف، وعندما أعطينا ساعة الصفر كان المكان يعج بالحركة، ونظرات الوداع والصمت، ذهب الجميع إلى الطائرات، وبدأت عملية التجميع الجوي السوري، وكان ينفذ لأول مرة في تاريخ الأمة من حيث عدد الطائرات، والصفوف المتنوعة المشاركة، وبيّن عربي أن الطائرات ذهبت إلى تنفيذ المهام المحددة لها وحققت أهدافها كاملة، رغم صعوبة المسرح القتالي، وعادت دون خسائر باستثناء طائرة الشهيد ذياب الحريري، مشيراً إلى أن هذه الطلعات توالت على مدار سبعة أيام حتى توقف إطلاق النار على الجهة المصرية، حيث حولت جهود طيران العدو باتجاه الجبهة السورية، حيث أصبحت المعارك أصعب وأشرس، وخاض المقاتلون معارك صعبة، وقد لاحظنا طائرات قادمة مختلفة عن طائرات العدو، لنعلم بعدها أنها طائرات من دول أخرى شاركت مباشرة بالحرب لمساندة العدو.
وبيّن عربي أنه كانت هناك أعمال بطولية نفذها الطيارون، وقصص كثيرة سطّرها أبطال سلاح الجو، كباقي قواتنا الباسلة، وتلك البطولات كان لها الأثر في نفوس المقاتلين، حيث شحذت الهمم، وارتفعت المعنويات، واللافت هنا أن طائرة ميغ 21 استخدمت بطريقة أذهلت الخبراء العسكريين، وحتى المصنعين لها، حيث كانت روعة في الأداء، مشيراً إلى أنه في تشرين انكسر حاجز الخوف والمواجهة مع العدو، وتبيّن أن عمليات التخطيط ودراسة واقع العدو أدت إلى نجاح في تشرين، إضافة إلى الخبرات المكتسبة التي كان لها الأثر في الانتصارات اللاحقة على العدو.
انتصار الإرادة العربية
اللواء المتقاعد نجيب بركات، كان اختصاصه دبابات، شارك في القطاع الأوسط للجبهة، المهمة الأساسية له ولرفاقه كانت استثمار نجاح مجموعات الاقتحام للنسق الأول، وتطوير الهجوم باتجاه كودنا الخشنية، واحتلال مرتفعات تل الشعف السنديان، ولاحقاً متابعة الهجوم باتجاه الدبورة جسر بنات يعقوب، في ذلك الوقت لم تصلنا المهام إلا قبل بدء العمليات القتالية بـ 24 ساعة من بدء الهجوم، ولكن كانت هناك تدريبات مكثّفة، حيث نفذنا كافة المشاريع التكتيكية بالذخيرة الحية، تم اللقاء 24 مع قائد الكتيبة، وتم استطلاع الجبهة في منطقة القطاع الأوسط، حيث عاينا المواقع والتحصينات المعادية، ودفعنا كاسحات الألغام والدبابات الجسرية لتكون جاهزة لاقتحام الخندق م.د.و، في السادس من تشرين الساعة 2 ظهراً انطلقت الدبابات السورية محمية بالمدفعية والطيران وفق أمر القتال الذي أخذناه، حيث هدرت الدبابات باتجاه الجبهة، وأثناء مرورنا في القرى التي تقترب من الجبهة كانت النسوة تلاقينا بالزغاريد، ويهتفون لقد حان وقت المعركة (الله معكم يا شباب)، هذه الكلمات مازالت تدوي في أذني، وعند الوصول إلى الخندق م.د تم اجتيازه باتجاه الهدف المحدد للسرية التي أقودها، وتمكنا بالاشتراك مع باقي صفوف القوات من تحقيق المهمة، حيث تم احتلال تلول الشحاف والطلايع، ودمرنا كامل الدبابات الإسرائيلية، وتابعنا القتال، مؤكداً أنه تم إسقاط أكثر من 40 طائرة في ذلك اليوم، حيث رأيناها تتهاوى كالفراشات، وواجهنا هجمات معاكسة من الجهة الغربية، وقد تمكنا من صد هذه الهجمات المعاكسة، وإحباط خطط العدو، وبيّن بركات أنه بعد تغيير الظروف القتالية والاستراتيجية للقوات المصرية انتقلنا إلى الأعمال القتالية الدفاعية، وبعد وصول احتياطات للعدو بمقدار فرقتين أصبح الموقف لدينا صعباً، ونفذنا انسحاباً منظماً، وهنا انتقلنا لاستيعاب الهجوم المعاكس المعادي، وكلّفت بالهجوم على قرية أم باطنة الساعة 2 يوم 19/10 وتحريرها من كتيبة دبابات إسرائيلية، حيث تمكنا من تدمير 15 دبابة و5 قواعد للصواريخ، ومنع تقدم العدو، وبتاريخ 21/10 جاءنا أمر وقف إطلاق النار بعد خيانة السادات المعروفة، أما النتائج التي تحققت فأهمها انتصار إرادة المقاتل العربي السوري، وإسقاط أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
قومية المعركة
وحول الدروس المستفادة من الحرب يقول المهندس أنور الحسنية: إن هذه الحرب أكدت من خلال التجربة العملية صحة النظرية التي استند إليها القائد حافظ الأسد في الإعداد للحرب وخوضها، وبخاصة في مجال الحشد المسبق لطاقة الشعب البشرية، والاقتصادية، والمعنوية، كون ساحة الحرب أصبحت تشمل كامل مساحة الوطن، وجميع سكانه، وبنيته التحتية، كما أن خيار الحرب أصبح يتطلب توازناً عسكرياً مع العدو في جميع جوانب القوة، عدداً وعدة ومعنويات، وأن يبنى هذا التوازن دفاعياً بالدرجة الأولى، وهجومياً في الدرجة الثانية، وأثبتت هذه الحرب صحة مبدأ “قومية المعركة”، لأننا كما قال القائد حافظ الأسد: “شعب واحد، ولأن الأرض المحتلة هي لأكثر من قطر عربي، ويجب الاستفادة من الطاقات العربية العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، ومن جغرافية المعركة المتمثّلة في الأراضي العربية المحيطة بإسرائيل”.
وبيّن الحسنية أن خطط حرب تشرين التحريرية أظهرت فكراً عربياً مبدعاً في التخطيط الاستراتيجي للحرب، وظهر الجندي العربي خلال المعركة بصورته الحقيقية شجاعاً قادراً على استخدام آلة الحرب الحديثة، محباً لأمته، مضحياً في سبيلها، وبدت في هذه الحرب دلائل عملية على وحدة الأمة العربية في الإرادة، والمشاعر، والرغبات، والآمال، والأهداف، وعلى امتلاكها طاقة هائلة عسكرية وبشرية واقتصادية قادرة على تحقيق النصر إذا ما استخدمت بشكل صحيح، واليوم معركة تشرين مستمرة بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، وإن تغيرت الأدوات والأساليب، حيث يواجه شعبنا منذ ثماني سنوات العدوان، والإرهاب، والتآمر العربي، وقد استطاع بإرادته، ووحدته، ووعيه الوطني، وبسالة جيشه البطل أن يدحر قوى الإرهاب العالمي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، ومن سار في فلكهما من أنظمة عربية.
المعركة مستمرة
ما أشبه تشرين العزة والكرامة والنصر والفخار عام 1973 بتشرين اليوم، حيث يسطّر جيشنا العربي السوري الباسل أروع انتصاراته على أعداء سورية عبر سحق الإرهابيين والمارقين والمرتزقة، كما أن الأمة التي أنجبت أبطال ذي قار والقادسية وعين جالوت وميسلون والثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، هي نفسها التي أنجبت أبطال تشرين، وأبطال الحرب على الإرهاب والإرهابيين التي يخوضها اليوم بعزيمة واقتدار جيشنا الباسل.
رفعت الديك