ثقافةصحيفة البعث

راسخة في الوجدان

 

ليست مجرد ذكرى عابرة، فالمناسبة تركت بصماتها على كل أطياف المشاعر النبيلة والجميلة، من الإحساس بالزهو والغبطة والرفعة إلى الشعور العميق بالتجذر والأصالة. إنها النفحات التشرينية القادمة إلينا اليوم من رحاب سورية سبعينيات القرن الماضي، التي وإن لم نعايشها نحن جيل الشباب إلا أن حالة الاعتزاز تكفّلت بنقلها إلينا بكل ما تحمل من مشاعر فخار عبر تواتر الأجيال.

وكم كانت كلمات جدي مؤثرة عندما كان يحدثني عن فصول الانتصار، وكأن الواقعة “بنت ساعتها كما يقال”، فقد تكفلت المعنويات العالية بتزويدنا بشحنة الاعتزاز ذاتها التي حملها وعايشها أهلنا الذين صمدوا وانتصروا وسجلوا أسمى معاني البطولة في مواجهة عدو زعم أنه “لا يقهر”. روى لي جدي عن أحداث حرب تشرين التحريرية عندما كنت تلك الطفلة الصغيرة التي لم تذهب إلى المدرسة لأنها مغلقة بمناسبة مرور ذكرى حرب تشرين التحريرية، ولم يعنها أمر المناسبة إلا أنها استطاعت جمع ألعابها وأغراضها والذهاب إلى بيت جدها وتستمتع كونه يوم عطلة لا أكثر. بادر جدي وفتح المذياع ليسمع الأغاني الوطنية ويستذكر أيام الانتصار والفرح، وبلحظة رأيت ملامح السعادة على وجهه وابتسامة لم أفهم مغزاها فسألته ماذا يعني هذا اليوم يا جدي؟ جلس وأخفض صوت المذياع وقال لي: هي مشاعر خوف وفرح، استدارت عيناي من كثرة الدهشة، فالشعوران متناقضان كثيراً، وباستغراب قلت له كيف هذا؟ لم أفهم؟، فأجاب بفخر واعتداد بالنفس: كان لي شرف المشاركة في حرب تشرين التحريرية، بعد شهور من التدريب المتواصل، حملت بندقيتي ووضعت القناع الواقي الذي استلمته من الجيش لأكون أحد صناع أروع الملاحم في التاريخ، كانت النفوس تغلي والحماس على أشده والجميع متشوقون للقاء العدو لتلقينه الدرس الذي يستحق، ولكي تفهمي أكثر سأحكي لك قصة عن الأطفال في الحي الذي كنا نسكن فيه، فلمعت عيناي ببريق الفضول وأنصت له وهو يتحدث شارداً في الأفق البعيد:

كان الأطفال الصغار في مكان سكننا –في دمشق- يجتمعون على أسطح المنازل لمشاهدة مسار الصواريخ منذ لحظة انطلاقها من القاعدة القريبة من الحي وهي تلاحق طائرات العدو الصهيوني وتسقطها، ورغم صوت الضجيج أثناء اختراق الطائرة والخوف من أن آبائنا الذين كانوا في قلب المعركة أن يكونوا استشهدوا أم  لازالوا على قيد الحياة، إلا أن الفرح لحظة إسقاط الطائرة كان يتفوق على الخوف وكان الناس يجتمعون في منطقة سقوط الطائرة من أطفال وشباب وحتى نساء لتبدأ حفلات الرقص والزغاريد والأناشيد فرحاً بالإنجاز العظيم، أما ابن الجيران فكانت فرصته الذهبية له للاقتراب من طائرة العدو واكتشاف نوعيتها ومحاولة لمسها، إلا أن حرارة جسمها –بسبب احتراقها- لم تسمح له بمسكها أو لمسها لكي يحتفظ بجزء من كيانها ولو صغيراً ليبقى ذكرى أبدية من هذا الانتصار العظيم، لكنه لم يفقد الأمل بل تابع الاحتفال مع الآخرين وبقي يرقص ويغني ويدور حول الطائرة حتى بردت وحصل على مراده.

في الحقيقة، تبدو المقاربة مهمة بين تشرين 1973 وتشرين 2018، فللذكرى القديمة بكل تفاصيلها الكثير من معاني الفخار التي تنطوي عليها نعيشها اليوم بتجسيدات حية وانتصارات سطرها أبطال الجيش العربي السوري، أحفاد أبطال حرب تشرين بذات العقيدة والإصرار اللذين انتصروا بهما في تشرين التحرير هما بوصلتهم اليوم في انتصار تشرين على الإرهاب وتحرير سورية وإسقاط كل المؤامرات التي حيكت لها، وإن كانت تشرين التحرير من جملة المقدمات الطيبة التي أسست لسورية الجديدة، فتشرين اليوم يحتضن ملامح سورية ما بعد الأزمة التي ستكون أقوى وأعلى بنياناً وأرسخ سيادة.

جمان بركات