الروح.. وما يوجعها!
حسن حميد
بلى، أكثر ما يؤذي الروح ويوجعها في المشهد الثقافي ليس هذه الكتابات الهشة التي لا تقول شيئاً، ولا تشير إلى شيء سوى الضعف والانطفاء، ولا هذا التجرؤ على إصدار الكتب وليس فيها سوى القش الذي لا ماء فيه ولا خضرة، ولا هذه الزفات المصاحبة لإصدارات الكتب من تواقيع وقراءات نقدية لنقاد لم يعرفوا قاعدة واحدة من قواعد النقد، ولم يقرؤوا سطراً واحداً باللغات الأجنبية، ولم يلتفتوا إلى كتاب نقدي في تراث العرب أو تراث الإنسانية عامة..، ما يوجع الروح ويؤذيها هو أن معظم الكتّاب الطالعين يعيشون حالاً ثقافية لا تعريف لها سوى الانفصام أو الدوران في المكان، أو الإعجاب بالنفس. وإني لأعجب العجب كله كيف يكتب الكاتب ولا مرآة له سوى مرآته الشخصية، فإن أُعجب بما كتب فعلى الآخرين، أياً كان شأنهم، أن يعجبوا وإلا فهم غير محترمين، وغير مرحبين بالأصوات الجديدة.
والحق أن مثل هذا التوصيف للحال الثقافية هو الذي جعل القراء، على اختلاف مستوياتهم وفي مقدمتهم النقاد أهل المعرفة، يبتعدون عن هذه الكتابات قراءةً واقتناءً، لأن حالات الخديعة تعددت وتكررت وكانت خواتيمها الندم على ضياع الوقت، والإحباط تجاه ما تصدره المطابع من جهة، وما تنشره المنابر الثقافية من جهة أخرى. ولعل من أبدى صور الضعف للنصوص المنشورة عدم إحاطتها بمرتكزات العمل الأدبي من لغة، وأسلوب، وجمال، ودهشة، وخيال، وجدة، وبراعات، والاستقواء بالآخر أو المشهد الثقافي الآخر في بقعة جغرافية أخرى، كأن ينشر كاتب طالع نصه في موقع إلكتروني في بلد آخر، ثم يعيد نشره على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة به وبرفاقه وكأن ما حازه أو استحوذ عليه هناك غنيمة هنا، ناسياً أن الاستقواء بالآخر لم تفده قدر ما أضرته وذلك لأن الضعف البادي في نصه الذي تبصره العين الكليلة، ازداد معرفةً وانتشاراً من قبل آخرين ما كان له لو أدرك ضعف نصه أن يطلعهم عليه، ثم يأتي ليقول مفاخراً إنه ينشر في مصر، والعراق، ولبنان، والجزائر.. وهو لا يدري أن الموقع الالكتروني الذي نشر فيه لا يطلع عليه إلا هو ومن يشبهونه وأن الذين نشروا له يشبهونه أيضاً، ومع ذلك صار لمعظم أصحاب النصوص الضريرة أنصار، لأن بعض من يشتغلون في الثقافة يظنون أن الحضور هنا وهناك، وفوق الأرض وتحتها وفي السحاب، هو قوة! وأنا لا أسمي هذا سوى تفعيل لجهل نشيط حراكه يشبه حراك دبابة دخلت إلى معرض للزهور كي تنتقي وتشم وتتمتع بسحر الأزهار!
ولا أقول هذا لأرفع سياجاً شوكياً بوجه الكتّاب الطالعين، كما لا أتحدث عنهم كلاً، وإنما أقول هذا لأن قلبي يحزن حين أرى بعضهم وقد بلغوا الستين من أعمارهم، وهم ما زالوا يقترفون أغلاط الواجب الإملائي في رسم الكلمات، ولا يعرفون أين يكمن غنى النص الأدبي، ولا يقرؤون أصحاب المدونات الأدبية المخيفة بجمالياتها وسحرها، العربية والأجنبية، لأن قراءاتهم مشدودة إلى من هم حولهم، أي إلى الكتابات التي تشبه كتاباتهم، ولهذا أقول إن الكتابة روحٌ، شواغلها تبدي ما إن كانت ذات أثر وسحر ودهشة من عدمه.
أهل الإبداع الحقيقي تحدثوا عن الليل الذي ما كانوا ينامونه لأنهم أطلقوا نصاً في صحيفة أو مجلة وخوفهم الراعب من أن يكون قد أُفلت من أيديهم قبل الأوان، أما اليوم فإن معظم الكتّاب الطالعين لا ينامون الليل أيضاً وهم يتلقون ما تمنحه أزرار مواقع التواصل الاجتماعي من إعجاب مِن مَن يشبهونهم في كل شيء.
Hasanhamid55@yahoo.com