في حوار حول تجربته في الكتابة د. طالب عمران: أدب الخيال العلمي.. أدب المستقبل الحالم بانتصار الإنسان على عوامل ضعفه
أنا إنسان نشأت مع القراءة والخيال والحلم، بالفطرة كنت أكره الأنانية والغدر وامتهان كرامة الإنسان واستغلاله، وأدافع عن الإنسان دون تمييز، منذ طفولتي أعشق القراءة، وكان من الطبيعي أن اكتشف أدب المغامرة الذي قادني إلى أدب الخيال العلمي الذي جعلني أتعلق بإرهاصاته المرتبطة بالاستشراف والمستقبل القادم، ربما كانت طفولة الإنسان وما يجري فيها من أحداث عاملاً هاما في تكوين شخصيّة المرء عندما يصبح ناضجاً، وهذا ما جعلني بعد أن اختزنت الكثير من المعارف أدخل فيه من بابه الواسع، وأعتبر نفسي مسؤولاً للدفاع عن الإنسان ضد من يسبّب له المتاعب والهموم وربّما كان الخيال العلمي منفذاً لكلّ هذه الأفكار والإرهاصات. بهذه المقدمة عبّر د. طالب عمران عن نفسه كإنسان وكرائد في الخيال العلمي.
وللوقوف على تجربته في الأدب بشكل عام والخيال العلمي بشكل خاص، كان لنا معه هذا الحوار والبداية كانت حول بداياته والبذور الأولى للخيال العلمي فأجاب:
<<لاشك أن الخيال العلمي هو الابن الشرعي لعصر العلم الذي نعيشه، جذوره الأولى ولدت مع خيال الإنسان الجامح وتصوراته، ومع الأساطير التي كان ينسجها عن مخلوقات قادرة على التحول والتجسد، بحيث تحاكي البشر وتختلط بهم وتشركهم في مغامراتها الساحرة، أساطير من حضارات بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر واليونان والرومان والهند والصين وغيرها من الحضارات، ما بين مغامرات (الراميانا والمهابارتا) في الهند إلى مغامرات آلهة جيل الاولمب بالألياذة والأوديسة إلى رسالة الغفران للمعري وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي إلى (حي بن يقظان) لابن طفيل حيث انتشرت السير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة وبدأ أدب السير يأخذ دوره بين الناس من (سيرة عنترة) إلى (سيرة سيف بن ذي يزن) وحمزة البهلوان والظاهر بيبرس وغيرها، وربما كان لوقيانوس السوري أول من حكى قصة خيال علمي، عن حرب تقع بين سكان الأرض وسكان القمر وتلاه بعض العرب في الحضارة العربية الإسلامية، فحي بن يقظان لابن طفيل تعد بطريقة أو بأخرى –نوعاً من الأدب العملي الرفيع.. وتكررت هذه التجارب في الحضارة العربية الإسلامية.
< ولكن كيف بدأت فكرة الكتابة لديك؟ وكيف جمعت بينها وبين الاختصاص الأكاديمي؟
<< يمكن للإنسان أن ينطلق من طفولة ما، طفولة ينشأ فيها بشكل مختلف، تؤهله ليدخل ميدان الإبداع. وأعتقد أن شخصية الإنسان ومحيطه، وربما المخزون الوراثي قد تؤهله لميدان الإبداع. لقد نشأت كبيراً في السن، لم أكن طفلاً في مرحلة الطفولة، كنت حالماً، قرأتُ كثيراً، القراءة كانت زادي، ولظرف خاص، كنتُ محاصراً بضغوطات مادية وعاطفيّة وربما غيرها.
دمشق جزء من حضارات راقية
عشت مع البحر فترة جميلة، وعشت مع دمشق 80% من حياتي، دمشق علمتني الكثير، إنها جزء مني، أعتقد أنها مظلومة ولم تُقدَم للعالم بشكل حقيقي، خرَّجت علماء أفذاذا، منهم أبولودور الدمشقي الذي يقول المؤرخون أنه بنى عمائر في كل الأرض، وقدمت الكثير من العمالقة مثل ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى ووصف الدورة الكبرى، ثم سُرقت أفكاره وأُلصقت بميشيل سيرفيه ووليم هارفي، وعندما نقرأ في مناهجنا نجد أن من اكتشف الدورة الدموية هو هارفي.. وقدمت دمشق ابن الشاطر الدمشقي الذي اكتشف مسارات الكواكب، وألصقوها بكوبرنيكوس.
بالتأكيد كانت طفولتي مختلفة، كان الكتاب رفيقي الدائم، كنت متعلّقاً بكتب المغامرات والفضاء وكتب التاريخ التي تبحث في الحضارات السابقة، إضافة للشعر الذي بدأته مع الشعر المقفّى ثمّ الشعر الحرّ وخصّص مدرّس اللغة العربيّة في مدرستنا حصّة أسبوعية للذين يجرّبون كتابة الإبداع، وكان زملائي ينقلون القصص والقصائد من الكتب ولم أكن أفعل ذلك وهذا ما جعل أستاذنا يقول لي ذات يوم أمام الجميع: أنت من يكتب الإبداع وسيكون لك في المستقبل مكان التميّز بين الكتّاب.
< ألا تتناقض الأحاسيس مع تكنولوجيا العلم الجامدة؟ وما هي أهميّة الخيال العلمي الذي تكتبه بالنسبة للإنسان؟
<< إذا وظّفت الأحاسيس في خيال يخدم الفكر الإنساني لا تتناقض أبداً، لاشك أن العقل الذي يمد الإنسان بتلك الطاقة الإبداعية والقدرة على التحليق في أجواء فذة أحياناً من الخيال، هو الذي يزيد من سموه ويعلي منزلته بين الكائنات الحية، التخيل عند الإنسان هو عالمه السحري الخاص، يطوف به أرجاء الكون حتى ليكاد يسمعه صوت تصادم الذرات بإلكتروناتها ويكاد يجعله يحس ببرودة أعتى الكواكب وأكثرها بعداً عن النجم الذي تدور حوله، أو بسخونة أقرب الكواكب إلى النجم.
قوة العقل الفريدة وقدرته على التخيل، هي التي تخلق العباقرة والعظام، خيال المخرج السينمائي أو المسرحي أو الإذاعي هو الذي يحدد روعة الفيلم أو المسرحية أو الدراما الإذاعية، ضمن خياله الإبداعي ينقل للمتفرج أو المستمع، الأحداث كما استطاع ذهنه أن يتملاها وضمن دفق من الصور المعبرة، أو المؤثرات الصوتية المثيرة، التي تحدد مدى قوته وسعة خياله ونجاحه في التأثير في المتفرج أو المستمع.
< وكيف يمكننا أن نعرّف الخيال المرتبط بالعلم؟
<< ببساطة نقول أن الخيال هو الانتقال عبر آفاق الزمن على أجنحة الحلم المطعم بالمكتسبات العلمية، وغالباً ما يطرق كتابه أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمن محدد، فهو نظرة واسعة على العالم يدخل فيها العلم فيخرج بحقائقه مع خيال الكاتب ليرسم أحداثاً تنقلنا إلى المستقبل أو الماضي السحيق فتثيرنا وتذهلنا والرابطة بين العلم والخيال رابطة مؤطرة، متماسكة ومن يكتب في هذا النوع من الأدب، لن ينجح دون ثقافة علمية ممتازة، يستخدمها في نسج أحداث قصصه ورواياته. أنا ملتزم بكتابة أدب الخيال العلمي، حتى أنه يطغى على كل اهتماماتي الأخرى من مسرح ورواية وقصص ودراسة، هذا الأدب هو أدب المستقبل، يحلم باللحظة التي ينتصر فيها الإنسان على عوامل ضعفه في الكون المحيط به، يحلم بالانتصار على الشيخوخة والمرض والتعب ويكتشف الأعماق المجهولة في المحيطات ويلتقي مع كائنات العوالم الأخرى، إنه يحاول أن يفسر حياة الإنسان والألغاز المحيطة به، ويقدم حلولاً لمشاكله المستعصية وهو أدب الخيال العلمي الجاد,وهذا ما أحاول التعبير عنه في كتاباتي. أما نوع الأدب الآخر الذي يؤكد على الخرافة دون مضمون علمي حقيقي فينتشر في المجتمعات الاستهلاكية كأدب يسلي قارئه في حافلة، في سيارة، في طائرة، ثم يلقى كتابه وينسى كل أحداثه غير المنطقية.
< دوماً يرى أبطالك أحلاماً غير عاديّة فمثلاً رواية “مزون” تصل سيطرة الأحلام على البطل حدّاً تبدو فيه وكأنّها كوابيس أمّا في “الأزمان المظلمة” فترشده إلى متاعب مرعبة وهي بعض ممّا ينتظره، أتراها رؤيتك الواقعيّة أم توقّعاتك متسعة الخيال؟ ثمّ ما هو الموقع الذي تضع فيه كتاباتك؟
<< الخيال العلمي يتخذ من المستقبل محوراً أساسيّاً في كل إرهاصاته تقريباً، يناقش طموحات الإنسان ومشاكله وهمومه في السنوات أو العقود أو حتّى القرون القادمة، إنّه أدب له علاقة مباشرة بالعلم وآفاقه المستقبليّة، وكتّابه ينقسمون إلى فئتين متباينتين:
فئة تركّز على الفانتازيا ووحوش الفضاء والغزاة من العوالم الأخرى ومغامرات أشبه بشطحات خرافيّة تستخدم العلم لنسج مبالغات مضللّة ليست لها علاقة بالإنسان وهموم مستقبله المتراكمة. وفئة تهتمّ باستراتيجيات التطور العلمي وآفاقه وعلاقاتها المباشرة بحياة الناس وهواجسهم وأحلامهم، بل وحتّى الأمراض والكوارث، كان الهمّ الإنساني هو المحور الأساسي لكلّ الكتابات التي بدأت تنسكب من قلمي، وسأبدأ بالحديث عن بعضها:
“الزمن الصعب”: رواية عن رحلة إلى كوكب بعيد يعود روادها إلى الأرض ليروا أنّ حرباً ذريّة قد حدثت والبشريّة في أسوأ أزمنتها.. وتنتهي الرواية وبطلها يقف أمام براعم من الأزهار تحدّت الدمار ونبتت..
“كوكب شبيه بالأرض”: رواية تتحدّث عن رحلة إلى كوكب شبيه بالأرض توصّل سكانه إلى تطوّر كبير جعلهم يطبقون نظاماً اجتماعياً متكاملاً الكل فيه يعمل ويبني ويطوّر، إنّه نظام يهتم بكائن ذلك الكوكب ومتاعبه وهمومه، كيف يحبّ ويشكّل أسرته؟ كيف يمرض ويموت؟.
“رواد الكوكب الأحمر”: تتحدّث عن رحلة إلى المريخ، يصادف الروّاد في الطريق بقايا حضارة مندثرة على كويكب أوروس تصف سبب دمار الكوكب الخامس بين المريخ والمشتري، حيث تكدّس السلاح النووي فيه واندلعت الحرب المدمّرة التي فجّرته لتتناثر شظاياه في المسافة الممتدّة بين الكوكبين.
“البعد الخامس”: تتحدّث عن القوى الخفيّة للإنسان ومستقبل استخدام الطاقة الحيويّة في حل مشاكله وعلاج أمراضه.
قدمت أعمالاً كثيرة ولكنّ الرواية المستقبليّة بشكلها العقلاني المشحون بهموم البشريّة كانت شديدة الوضوح في روايتي: “الأزمان المظلمة” التي تتحدّث عن تصوّر لقرن بدأت ملامحه المرعبة في الحادي عشر من أيلول، من البناّئين الأحرار إلى الدخول في عالم الغد المرعب إلى زمن القوارض والأوبئة المبرمجة إلى ديدان الموت، محطّات أستفيض فيها بالحديث عن الأزمان التي يشهدها عالمنا اليوم والخراب يزداد فيه.
في “الأزمان المظلمة” عرض لما يحدث في العالم الآن وما يمكن أن يحدث خلال السنوات القادمة حتّى العام 2040 وتتابع في جزئها الثاني الأحداث حتّى نهاية القرن، هي صرخة تحذير قاسية واخزة علّها توقظ النيام..
وتابعت بعض هذه الهموم في الجزء الجديد من روايتي الجديدة “مزون” وهي رواية ملحميّة تتحدّث أيضاً عن المستقبل في فصلها الأخير (نفق الأحداث المقبلة) عمّا يمكن أن يحدث للمنطقة مع أمواج التلوّث والخراب الذي يمكن أن يحدث إذا لم يسارع الجميع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
< ما هو تاريخ تأسيس أدب الخيال العلمي العربي في تقديرك؟
<< ربما يعود تاريخه إلى لوقيانوس السميسطائي السوري والذي يسمى في الغرب (لوسياندو سميساد)، وقد كتب حواراته وأفكاره وخيالاته المجنحة على أسس قريبة من الخيال العلمي الآن، وأرسل أبطاله إلى القمر وجابوا المحيطات والأراضي البعيدة، هو الرائد الحقيقي للأدب الخيال العلمي العربي.
أدب الخيال والفضاء الثقافي
< هل وجدتم اعترافاً بهذا النمط من الكتابة في الفضاء الثقافي العربي ومن القراء بصفة خاصة؟ ومانوع هذا الاعتراف؟
<< بالتأكيد اعترف بنا القراء وتابعونا، ولكننا في الفضاء الثقافي العربي مازلنا شبه مغيبين، والسبب نقاد السلطة، وأسياد الثقافة الاستهلاكية، الذين عدّ بعضهم أدب الخيال العلمي نوعاً من الهرطقة والتدليس.
نحن نحاول أن نثبت أقدامنا في الدائرة الثقافية العربية رغم كل أنواع الحصار والتغييب، وفي السنوات الأخيرة بدأنا نشعر أننا نخرج إلى السطح، والدليل أقدمه شخصياً، هو كثرة طبعات كتب الخيال العلمي التي ننشرها، هذا دليل صحة على مستوى القراء، وإن كان ينقصنا اعتراف النقاد بنا، وهناك مشكلة الثقافات الإقليمية التي تغيّب بعض العرب عن ساحة الخيال العلمي، ومؤخراً قرأت كتاباً حول الخيال العلمي العربي لم يذكر فيه كاتبه سوى أسماء مصرية مع اسمين أو ثلاثة من أماكن أخرى، هذا أيضاً يشكل نوعاً من عدم الصدق مع النفس حين طرح عنوان معيّن كعنوان الخيال العلمي العربي. لا أدري لماذا يبتعد الجميع عمّا يجري حالياً من امتهان للإنسان العربي وحصاره، ومحاولة تغييب مستقبله؟
< هل هناك مواضيع للخيال العلمي العربي؟
<< كما يتحدث كتاب الفانتازيا في الغرب عن الأطباق الطائرة أو الحشرات العملاقة أو كائنات الفضاء التي تغزو الأرض، أو الإنسان الآلي المسيطر إلى آخر هذه المواضيع، فإن الكتاب العرب يتناولونها ببيئة محلية، وقليل منهم من يأخذه الحديث عن المستقبل وهمومه ومشاكله البيئية والإنسانية، نحن نحاول كأدباء جادين أن نؤصل لهذه المفاهيم، لأن همومنا ومتاعبنا العربية كبيرة وتزداد ضخامة مع الزمن، ويجب أن نتناولها بالتحليل والتحذير.
< يتساءل بعض النقاد الغربيين عن غياب التساؤلات الدينية في نصوص الخيال العلمي العربي، بماذا تجيب؟.
<< الدين لا يشكل هاجساً عندنا، لماذا نعمّق خلافاتنا بتناول الدين؟ ما يريده الآخر الذي يحاصرنا هو تفتيت اللحمة بيننا، لدينا أصوليون أوجدهم حكام الغرب وضخّموهم وأصبحوا عبئاً على العالم، الإسلام دين سمح لا يعرف التعصّب، تعايش مع الأديان الأخرى في كل العصور حتى في زمن فتوحاته، ورغم أن تلك الأديان لم تعترف به وحاربته أحياناً، إلا أنه استوعبها، وظلّ منفتحاً عليها، لذلك نحن لا نتطرق للتساؤلات الدينية لأننا نركز على التسامح وهو جوهر الإسلام، ورغم ذلك تحدثت عن دور المحتل الأمريكي في تغذية الطائفية والعرقية في العراق الذي كتبت عنه رواية طويلة كجزء من أزماننا المظلمة القادمة.
بين الخيال والواقع
< إلى أي مدى يكرّس كاتب الخيال العلمي العربي الخيال للتعبير عن الواقع؟
<< في أغلب هذه الكتابات يلعب الخيال في صنع وقائع الأحداث، حيث نشعر أننا نعيش في بيئة عربية كاملة وسط خيال معبّر عن هذه البيئة بتفاصيلها وأحداثها المقبلة، وقد نرى ذلك في كتابات نهاد شريف، عبد السلام ألبقالي وفي كتاباتي كلها، نحن جزء من واقع نتحدث عنه بخيال مجنّح، دون اغتراب أو هروب إلى خيال غير واقعي.
< تناول الأدب للأزمة، هل تراه يعبّر عن ضرورة أم عن ترف أدبي؟
<< بالتأكيد دور الأدب يكمن في وصف الأزمات وتحليلها والتعبير عنها، وهذه الأزمة التي نحياها نحن العرب، وقد امتد المجتمع الاستهلاكي طاغياً على الإبداع بكافة أشكاله الأدبية والعلمية والثقافية، بحيث أصبح المال هو الصانع للكتاب –وهم كتاب غير جادين- وكرس المال شعراء أثرياء ليس لهم علاقة بالشعر، وربما إن وجد في نتاجاتهم شيئاً من الإلهام فهو من صنع غيرهم، مبدعون اشتروا إبداعاتهم وادّعوها لأنفسهم، هي كارثة ولكنها تمتد وتكبر، كما تكبر وتتكاثر محطات الفيديو كليب لتخريب الأجيال الشابة حيث يوظف النفط لخدمة الزعماء والشيوخ وليس لخدمة التنمية والفكر والثقافة.
< وهل هناك تقبّل لهذا النوع من الأدب بعد سنوات من انتشار روايات الخيال العلمي؟
<< الأجيال الشابة تتلقف هذا النوع من الأدب، رغم تراجع القراءة بشكل عام في عالمنا العربي، وأعتقد أن هناك مخططاً مدروساً لتغييب الأجيال الجديدة عن الإبداع والثقافة والقراءة ومسح الذاكرة بتغيير المناهج المدرسية، والإكثار من المحطات الفضائية التي تبث أغاني الفيديو كليب لمطربين غير مقنعين برسائل قصيرة غاية في القبح أحياناً، وتشجيع الشبان على المراسلة والألعاب، والاهتمام بملاحقة الفرق الرياضية العالمية لدرجة تحدث بينهم المشاجرات الدامية أحياناً، عدا عن ما تبثه المواقع الالكترونية من سموم لهؤلاء الشبان، لا أدري ما الذي يحدث؟ لماذا هذه الهجمة الكبيرة على الأجيال الجديدة؟ هل هي هجمة بريئة؟.. لا أعتقد..
< هل هناك انبعاث للأمل أم تعميق للأزمة؟
<< الأزمة مع الأسف تتعمق وهذا ما نحاول أن نحذر منه، لدرجة أنني في روايتي المقبلة أتحدث عن هذه الأجيال المضيعة كأجيال رقمية، لا تقرأ وليس لها خيال، وبالتالي لا عاطفة فهي أشبه بالأرقام، الأزمة موجودة وتتضخم وهو ما يقلقنا نحن كتّاب الخيال العلمي الجاد، أنا إنسان أحاول أن أوصل رسالة، والحياة رسالة، وإذا لم يؤمن الإنسان بذلك، فستمر حياته دون أن يترك أثراً، أكتب الخيال العلمي لأن المستقبل يرعبني، وأنا أحاول أن أعبّر عن رعب الأيام المقبلة مع ازدياد فوضى التلوث وحصار الإنسان وجوعه وسحقه بالقمع والحرمان، وكيف يصبح المنافق الكاذب المرتشي هو السيد في مجتمعات لا تعرف الرحمة، أنا أهتم بذلك ويرهقني ، وأتمنى من غيري أن يؤمن بهذه الرسالة التي ينتجها المبدعون.
< ما هي المساحات التي تأخذها أزمة الحدود بين الشرق والغرب؟
<< مع الأسف الأزمة موجودة، رغم أنني أعتبر أن في الغرب أناساً يهتمون بالإبداع الإنساني دون التفرقة بين البشر، وهم قليلون مع الأسف. أن ترى محتلاً يقتل ويسحق الإنسان ولا تتأثر يعني أنك بلا مشاعر، أما أن تشعر أن هذا يشكل وبالاً على القيم، فأنت ذو نزعة إنسانية خيّرة.
أنا أتمنى أن نلتقي مع كتاب الغرب نتحاور، العمق الإنساني واحد، والهم الإنساني واحد، ما تلوّثه البيئة قد ينتقل بكوارثه إلى كل الكوكب كالضباب ألدخاني الذي تنقله الرياح، كالتسرب الإشعاعي الذي يقتل الحياة، وكالتلوث البحري الذي ينتشر أيضاً دون تمييز بين البشر، أعود فأؤكد أن الهم الإنساني واحد، تعالوا نعمل معاً.
< في روايتك “الأزمان المظلمة” يمر الاستشراف عبر الحلم لماذا؟.
<< الأحلام وسيلة استبصار هامة كما يؤكد علم النفس ولكن الحلم بالنسبة لي في هذه الرواية هو جزء من تاريخ أشخاص قادمون للحياة في جزء الرواية الثاني، حيث تكبر الدائرة، وتتعمق، ونرى أن الإنسان تزداد كرامته امتهاناً ويزداد سحقه وحصاره القاتل، نماذج كثيرة تبرز هذه الصورة.
< هل يمكن تصنيف عمل كُتَّاب الخيال العلمي كجزء من البحث العلمي؟
<< بالتأكيد، لقد تخيَّل هيربرت ويلز في “حرب العوالم” أن كائنات فضائية أتت من المريخ، وبدأت تدمرها، وكانت تستخدم أشعة حارقة وكان ذلك في عام 1898، أي قبل اكتشاف أشعة الليزر بحوالي ستين سنة، لقد تنبأ بها ووصفها وصفاً دقيقاً وكأنه يعرفها. الخيال العلمي له أهمية كبيرة في العالم المتطوّر، ويكفي أن أقدم مثالاً حياً على ذلك، هو أنه من بين سبعة يرسمون إستراتيجية القرن لأمريكا، هناك كاتبان في الخيال العلمي، كما أن له دورا كبيرا في تنمية الإبداع العلمي لدى الأطفال وهو سفر الأدب في عصر التكنولوجيا، فالخيال العلمي هو الخيال المطعم بالعلم، وهو قبس أدبي جديد، ويعتبر جول فيرن وهربرت جورج ويلز من أوائل رواده في العالم، إذ كتب روايته (من الأرض إلى القمر) عام 1865م، قبل الهبوط على القمر بأكثر من مائة سنة، وكتب عن الغواصات وسفن الفضاء والمناطيد وعن الزمن، كما كتب ويلز عن الغذاء السحري والهرمونات وآلة الزمن والصعود إلى المريخ. وقد توجه أدب الخيال العلمي في اتجاهين، اتجاه جاد ركز على الإنسان وهمومه ومشاكله وسبل حلها، واتجاه فانتازي قدم مغامرات وتسلية دون الغوص في أعماق الهم الإنساني وهواجسه المستقبلية.
< وماذا عن أدب الخيال العلمي في وطننا العربي؟
<< تأخر الخيال العلمي في وطننا العربي، فلم نعرف أدباً علمياً جاداً قبل عام 1972م عندما نشر نهاد شريف روايته (قاهر الزمن) في سلسلة روايات الهلال، وقبله كانت هناك محاولات غير مكتملة لكتّاب مغامرين لم يفهموا طبيعة الخيال العلمي وأهدافه وسيادته العلمية والمنطقية.
مشروع ثقافي
< لديكم مشروع غير مسبوق في جامعة دمشق بدأ قبل أكثر من خمس سنوات تصدرون من خلاله مجلّة الأدب العلمي الشهريّة ومجلّة دوائر الإبداع الفصليّة والكتاب الشهري، وتتناولون في هذه الدوريّات كل نواحي العلم والفكر والفن والأدب ماذا عن هذا المشروع؟
<< مجلّة الأدب العلمي مخصّصة لمقالات العلم والإبداع العلمي في الأدب -أقصد أدب الخيال العلمي– وتهتمّ بالتراث الفكري والعلمي والفضاء وعلم الحياة والبيئة والظواهر والخفايا والكتب العلميّة المنشورة حديثاً. ويكتب فيها أساتذة جامعات وباحثون ومبدعون، ونحن نشجّع الكتّاب الجدد من الشباب للنشر في هذه المجلّة وفي مجلّة دوائر الإبداع الفصليّة المخصّصة للفكر والفن والإبداع الأدبي.
أما كتاب الشهر فقد وصل عدد الكتب التي نشرت إلى 45 كتاباً ما بين روايات خيال علمي منتقاة بعناية وعلم نفس وعلم حياة وعلم فلك وبيئة وتراث علمي سوري وتراث علمي عربي. وأسعار هذه المنشورات مشجّعة للقرّاء لتشجيع القراءة، لدى طلبة الجامعات والأجيال الجديدة، ضمن سياق مدروس للتثقيف العلمي والفكري بأسلوب مبسّط.
حاولت أن تشاركنا وزارة التربية في هذا المشروع الثقافي عن طريق إصدار مجلاّت علميّة للتلاميذ والطلاّب في المدارس ونشر الكتب العلميّة المبسّطة والروايات والقصص لكلّ المراحل العمريّة، بحيث تصبح هذه المنشورات العلميّة البعيدة عن الانغلاق جزءاً من مناهج ندفع فيها الأجيال الجديدة للقراءة، وتوسيع آفاق المعرفة لخلق جيل قادر على الفعل والإبداع العلمي بعيداً عن هجوم بعض مواقع الميديا المبرمجة لإفساد العقول، ولم نتمكّن من التواصل معها من جديد.
< والخيال العلمي الموجّه للطفل، ما الأهمية التي يحملها؟
<< نحن نعيش في عصر لغته العلم، فعندما يقدم العلم بصورته التقليدية الجافة قد يجعل الأطفال ينفرون منه لذا من الضروري تقديمه بصورة شيقة جذابة ضمن قصة أو حكاية، وهذا ما أقصد به الخيال العلمي الموجّه للطفل. وهنا يجب أن نكون حذرين في فهمنا للعلم، وأن لا نتناقض مع أصوله وأن نستوعبه قبل أن نغوص في كتابة قصة طفلية، لا يمكن مثلاً لكاتب أن يحكي عن القمر بطريقة علمية إذا لم يدرس هذا الجرم السماوي القريب منا دراسة صحيحة ولا يمكن له أن يتحدث عن الغوص في البحار ما لم يعرف تماماً البحر والغوص نفسه.
إن تنمية المواهب العلمية بدءاً من البيت فالمدرسة فالمؤسسات المسؤولة عن الطفل قد تفتح آفاقاً أمام أجيالنا المقبلة في مستقبل لغتهم الأساسية والوحيدة أحياناً هي ما تملك هذه الأجيال من علم وتقنيات ووسائل متطورة.
< أقيم في مصر مؤتمر للخيال العلمي تحت اسم – دورة د. طالب عمران، استشراف المستقبل نموذجاً – ماذا رتب عليك هذا اللقب من مسؤوليات؟
<< فوجئت فعلاً أنّ هناك الكثير من الأدباء والنقّاد يتابعون ما أكتب، وقد خصّص جزء كبير من المؤتمر للحديث عن استشراف المستقبل في رواياتي من (الأزمان المظلمة – ثقب في جدار الزمن – نداءات الأرض – الزمن الصعب – ليس في القمر فقراء…) وبالتأكيد هذا يدفعني للالتصاق بهموم الناس ومتاعبهم والكتابة عن مستقبل صعب تزداد فيه هموم الناس ومتاعبهم وسط انفلات غير أخلاقي يسيطر على المتحكّمين بحياة الناس وقوتهم.
حوار: جمان بركات