الإرشاد النفسي.. إشارات استفهام عن دوره الحقيقي في تقديم الدعم والرعاية.. وبحث عن مقوماته في الحياة المدرسية
تسببت الأزمة السورية منذ بدايتها– وما رافقها من أعمال عنف وإرهاب مسلح- بتهجير عدة أسر مع أبنائها ليستقروا في مراكز الإيواء، إذ ظهرت جماعات مسلحة تتبنى العمل الإرهابي منهجاً، مستهدفة المدنيين العزّل، وترويعهم بتهديد السلاح، موقعين عشرات القتلى والجرحى، إذ شوهدت مناظر مروعة لضحايا وأشلاء من أجزاء بشرية ممزقة أو محترقة، بل هناك من فقد أعزاء له: (أب، أم، أخ، أخت، صديق..)، وهناك من استقرت شظايا في جسده، ولاتزال تجرى له عمليات جراحية معقدة، وهناك من كتبت له النجاة وأصيب بإعاقة ما، أو غدا الأطفال والمراهقون ممن فقدوا كل أفراد أسرهم عرضة للشارع، وما يحمله من مخاطر تهدد مستقبلهم الدراسي.. إن جميع تلك الأحداث شهدها أبناؤنا، ولم تكن مألوفة بالنسبة لهم، وتسببت بظهور مجموعة اضطرابات نفسية، وانفعالية، وضغوط اجتماعية لديهم!.
تفاصيل الحرب
أم نادر، المرأة العاملة، ذات الـ (35) ربيعاً، عاشت كل تفاصيل حرب الإرهاب في محافظة دير الزور، من تهجير، وتنكيل، وتدمير، فقدت زوجها بقذيفة غدر، وفي عهدتها اليوم ولدان وبنت من عمر التعليم الأساسي، لا تملك من التقنيات التربوية والإرشادية ما يمكنها من التعامل مع الضغوط النفسية والانفعالية التي عاشها أبناؤها، فرغم تعافي الأسرة من تأثير الضغوط المادية والاقتصادية نوعاً ما، إلا أن الأثر النفسي والانفعالي مازال يفعل فعله مع الأبناء، لاسيما بعد تسرب ولديها (الذكور) من المدرسة، ورغم مساعي الأم لإعادتهما إلى مقاعد الدراسة، لكن محاولاتها باءت بالفشل، وعند سؤالها عن دور المرشد النفسي في مساعدتها لإعادة هذين الولدين إلى المدرسة، أجابت بقولها: لم يكن الإرشاد النفسي حاضراً لتفهم حالة ولدي، رغم الجهود المشكورة من إدارة المدرسة لتجاوز الكثير من الإجراءات الإدارية والروتينية، لكن الضغوط النفسية والانفعالية كانت أكبر من قدرة ولدي على نسيان تفاصيل الحرب والإرهاب، وكان دور المرشد النفسي حينها مغيباً!.
مهارات تطبيقية
أسما الحريري، المرشدة المدرسية في إحدى مدارس التعليم الثانوي بمحافظة درعا، بيّنت أن عدم قدرة المرشد النفسي على القيام بدوره الفاعل لمعالجة الاضطرابات النفسية والانفعالية التي عانى منها الأطفال والمراهقون، وخفض معدلات التسرب الدراسي بينهم خلال سنوات الحرب، يعود لعدة أسباب أهمها: عدم امتلاك المرشد النفسي ما يكفي من المهارات (التطبيقية) التي تمكنه من الولوج إلى المكنونات الداخلية للتلميذ الذي يعاني من أية اضطرابات نفسية أو انفعالية حالت دون متابعة تحصيله الدراسي، بالتزامن مع عدم توفر اختبارات عقلية، أو مقاييس نفسية أو انفعالية /فردية أو جماعية/ تمكنه من التشخيص الأولي لطبيعة كل حالة، ناهيك عن ازدحام التلاميذ في الصف الواحد، أو تكليف المرشد النفسي بأعمال إدارية تحول دون تفرغه لمتابعة أية حالة مزمنة، بالإضافة إلى مشكلة مهمة جداً نابعة من المرشد النفسي ذاته كعدم رغبته باتباع الدورات التدريبية التي تقيمها- بين الفينة والأخرى- مديريات التربية في المحافظات، بالإضافة للأسباب المادية المتمثّلة بعدم تناسب مستوى الدخل مع مستوى المعيشة، والذي قد يحول دون تمكن المرشد النفسي من تقديم أفضل ما لديه من الناحية المهنية.
تطوير الإرشاد
وفي السياق ذاته أشار الأستاذ إبراهيم دوش، الاختصاصي بالدعم النفسي في مديرية صحة حلب، إلى أن تطوير مهنة الإرشاد النفسي يحتاج إلى نقابة أو رابطة علمية أو مهنية تعالج هموم المرشدين النفسيين وقضاياهم، وتوصل صوتهم للجهات المعنية أسوة بنقابة المعلمين، أو نقابة المحامين، وأن دور المرشد النفسي شبه مغيب في مدارس التعليم العام (الأساسي والثانوي)، وذلك عند سعيه لمعالجة مشكلات الأطفال والمراهقين وأسرهم، وأن أية محاولة لإثبات هذا الدور ميدانياً لا تتعدى الجهود الفردية من بعض المرشدين النفسيين الذين قرروا أن يكونوا متميزين في عملهم، أما بالعموم، فهناك شعور جمعي نابع من المرشد النفسي ذاته، أو من البيئة الاجتماعية المحيطة، يتمثّل بعدم الإحساس الحقيقي بأهمية دور الإرشاد النفسي في مكافحة التسرب الدراسي، وأن القوانين الصارمة المطبقة على أولياء الأمور لخفض معدلات التسرب الدراسي قد تكون فعالة أكثر حيال هذه الظاهرة.
ما واقع الحال؟
تأثرت مسيرة التربية والتعليم بشكل سلبي خلال الأزمة السورية، ومن المعلوم أن أية دولة تعاني من ظروف الحرب لابد أن يتأثر فيها قطاع التعليم، وترتفع فيه نسب التسرب الدراسي بين التلاميذ بسبب خطورة الطريق الذي لا يخلو من قذيفة غدر، وخوف الأهل على أبنائهم من الذهاب للمدرسة، فالحرب أدت إلى تخريب جزء مهم من البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، وخروج عدد لابأس به من المدارس عن الخدمة، أو تحولها لمراكز لإيواء الأسر المهجّرة، وما رافق ذلك من ظروف صحية ونفسية وانفعالية سيئة، وعمالة مبكرة بين الأطفال والمراهقين، وعوامل أخرى أدت في نهاية المطاف إلى رفع نسب التسرب الدراسي.
الظروف السيئة
وفي سؤال موجه للأستاذة سبيت سليمان، مديرة البحوث في وزارة التربية عن واقع الإرشاد النفسي والاجتماعي في مدارس التعليم العام (الأساسي والثانوي)، أجابت: على الرغم من الظروف السيئة التي عاشها أبناؤنا الطلبة خلال سنوات الأزمة السورية الماضية، إلا أن وزارة التربية، ممثّلة بمديريات التربية في المحافظات، بذلت جهوداً جبارة لدعم المرشد المدرسي، وتحسين ظروف عمله، وتمكنه من تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والمراهقين، والحد من ظاهرة التسرب الدراسي فيما بينهم.
وتتابع الأستاذة سبيت سليمان بقولها: إن إرهاب المجموعات المسلحة خلّف الكثير من التخريب في البنية التحتية لمكونات العملية التربوية والتعليمية، من تدمير المدارس، وسرقة محتوياتها من رواتب العاملين، ووسائل تعليمية، ووسائط نقل خاصة بالمدارس ومديريات التربية، وتعرّض المعلمين والمرشدين النفسيين والكادر الإداري والتلاميذ لإرهاب المجموعات المسلحة، ومنعهم من الذهاب للمدارس، وتضرر كثير من المدارس لتصبح خارج الخدمة، ما دفع الوزارة إلى تحويل عدد من المدارس في المناطق الآمنة إلى دوام نصفي لاستيعاب أكبر قدر ممكن من التلاميذ والطلبة المهجّرين، بالتزامن مع دخول عدد من المحافظات الكبرى كحلب وريف دمشق في الأزمة من حيث النزوح السكاني، وسعي السلطات التربوية إلى بناء مدارس جديدة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من التلاميذ الجدد الوافدين إلى الصف الأول حتى نهاية المرحلة الثانوية، كما برزت مشكلة زيادة عدد التلاميذ في الصف الواحد، ورغم كل تلك الظروف السيئة، إلا أن المرشد النفسي كان حاضراً وبقوة من دافع وطني ومهني للتخفيف من وطأة الاضطرابات النفسية والانفعالية التي خلّفتها الحرب على الأطفال والمراهقين، كما حرصت وزارة التربية على إعادة تأهيل المدارس، وإضافة غرف مسبقة الصنع لخفض الكثافة الصفية المرتفعة، وتوفير التجهيزات المناسبة لها، والتنسيق مع مديريات التربية في المحافظات الآمنة للعمل على إعداد الخطط الإسعافية على المدى المتوسط والبعيد لاستقبال الأطفال والمراهقين ممن تسربوا من التعليم الأساسي والثانوي.
وأضافت: لقد استشعرت وزارة التربية الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه المرشد المدرسي في بحث وعلاج المشكلات النفسية والانفعالية التي تقف خلف ظاهرة التسرب الدراسي خلال سنوات الأزمة السورية، فكان من بين تلك الإجراءات إعادة تأهيل المرشدين النفسيين والاجتماعيين بإقامة دورات تدريبية لهم في مجال الدعم والإسعاف النفسي في الأزمات، وتوسع إيفادهم إلى كليات التربية بالجامعات السورية، وتنظيم مجموعة من الأدلة و”المطويات” حول الآثار النفسية والانفعالية والاجتماعية على الأطفال والمراهقين الذين عادوا إلى مقاعد الدراسة، وكيفية تفهم حاجاتهم، وإبعادهم عن تأثيرات الصدمات النفسية، لاسيما المهجّرون منهم، كما تعاونت وزارة التربية مع المنظمات الدولية كاليونيسيف، واليونسكو، والهلال الأحمر لإعادة تأهيل المرشدين النفسيين والاجتماعيين بالدورات التدريبية، وتشجيع إدارة المدارس لإقامة جلسات إرشاد فردية وجماعية لجميع التلاميذ المنتظمين والعائدين من التسرب، وأولياء أمورهم للحيلولة دون تسرب التلاميذ إذا ما حصل أي طارئ، وكيفية الالتحاق ومتابعة التعليم في المدارس المناظرة ضمن المناطق الأكثر أمناً، كما تم تفعيل التنسيق بين وزارة التربية ووزارة الصحة لرفد عدد من الأطباء النفسيين لتقديم العلاج النفسي للحالات المستعصية على المرشد المدرسي، وتمكينه من متابعة العلاج السلوكي بعد إتمام العلاج الدوائي، والسعي لإصدار قوانين تمكن المرشد المدرسي من سهولة التواصل مع أولياء الأمور لمتابعة الحالات بشكل منفرد، وجوائز تشجيعية لمن عمل على رفع مستوى دافعية التلاميذ العائدين إلى مقاعد الدراسة للتعلّم، وكانت لهذا الإجراء فاعليته في رفع مستوى التحصيل الدراسي لهؤلاء التلاميذ، وتحسين نشاطهم ومشاركتهم داخل الحصة الدراسية، وإجراءات أخرى قامت بها وزارة التربية.
الطموحات والآمال
رغم كل تلك الجهود المبذولة، إلا أن المنغصات مازالت موجودة، والآمال مازالت معقودة لبذل مزيد من الجهود من جميع أطراف العملية التربوية لنشر الوعي بأهمية المرشد النفسي في الحد من ظاهرة التسرب الدراسي بين الأطفال والمراهقين، لاسيما خلال الأزمة السورية، فمهنة الإرشاد النفسي مهنة نبيلة جداً، وتتطلب من المرشد النفسي بذل جهود مهنية مضاعفة للولوج إلى الخلجات الداخلية للطفل أو المراهق، وتلمس مشكلاته النفسية والانفعالية والاجتماعية التي قد تكون ممتدة، ويكون سببها الأسرة أو المجتمع، أو أي خلل ما في العملية التربوية، وبالمقابل، فإن المطلوب من المرشد النفسي أن يكون فاعلاً، وليس منفعلاً، يقود دفة العملية التربوية بالتعاون مع المعلم، وإدارة المدرسة، والسلطات التربوية، والأسرة، والمجتمع عموماً، فحاجة الأطفال والمراهقين اليوم للدعم النفسي توازي حاجاتهم للدعم الصحي والغذائي، ليأخذ بيدهم للوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الصلابة النفسية، والتوافق الشخصي والاجتماعي، ومتابعة التحصيل الدراسي بتفوق.
حسام سليمان الشحاذة