أورسولا الدمشقية
أين تضعنا مقولة عالم المسماريات الفرنسي (شارل فيرلو)، تلك المقولة الأثيرة: «لكل إنسان وطنان.. وطنه الأم وسورية» ونحن في سياق استحضار مآثر الفنانة التشكيلية وباحثة علم الاجتماع أورسولا باهر؟ أغمضت عينيها أخيراً في دمشق وهي التي تمنت أن تدفن بها مضرجة بالياسمين، الذي رأته –أورسولا- نشيد سلام وخلاص، ولعل الذاكرة تستحضر ما يتصادى فيها من عناوين دالة من مثل (ادفنوني هناك) وغيرها، لمبدعين مختلفين، لكننا في حضرة الفنانة الفطرية أورسولا سنذهب إلى قيمتين مضافتين: الأولى هي الثيمات المكونة لأعمالها التشكيلية والتي عُرضت مؤخراً بدمشق –دار الأوبرا، على مستوى ما رأته وما شكل قناعتها، أي في تعرية وجوه الإرهاب، والثانية تمجيد الشهداء الذين قضوا لرفعة سورية، وهاتان القيمتان سواء أكانتا من منظور التشكيل أو من منظور القيمة الإنسانية، ستندغمان في رؤية فنانة اختارت أن تكون إلى جانب الحق السوري، إذ لم تعد مهمة تلك الأسئلة الشاقة من أين هي ولم فعلت ما فعلته، أي أنها جهرت بوعيها الإنساني/ الوطني العابر للغات والأماكن صوب هوية إنسانية جامعة كونية التكوين، وهذا ما سيُحسب لها بعيداً عما تصادى في وعينا الجمعي من آثام الاستشراق.
أورسولا التي ارتاحت في أرض الشام لتهب لينابيعها خصباً جديداً، ظلَّ عشقها لدمشق أبعد من احتدام ألوانها البسيطة والمركبة وحساسية ما ذهبت إليه، كان المعادل الجمالي لرؤيتها الحضارية الباذخة، من معادلة الألوان المترعة بحساسية القضايا، إلى حتمية النصر الذي رأته بأم عينها واستشرفته قبلاً، نصر سورية على أعدائها وقيامتها لتظل في قلب العالم كلمة سر الشرق تاريخاً وجغرافيا وثقافة وإنساناً، وإن إيثارها لإحياء بطولات الجيش العربي السوري ومآثره، هو ما يوازي فهمها لحقيقة امتلكتها وعياً وإحساساً قبل أن تجهر بها في فضاءاتها التشكيلية المتنوعة، وفي مرايا تشكيلها صارت هي الحقيقة الإضافية على امتداد وعيها بأن تكون إلى جانب الشهداء الذين رأتهم جسراً إلى الحياة وإلى التجدد، لترتقي صورتها إلى جانبهم مشعة بجوهر نبيل، هو جوهر الإنسان حينما تذوب هويته بهوية إنسانية لا تُختزل بحدود ضيقة… إذن هي القيمة الدالة على وعي كوني مازلنا في إثر علاماته، ولعل الكثير من تجارب بعينها لم تكن من حيز الإنصاف فحسب، بل في حيز الجهر بالحقيقة دون تردد، الحقيقة التي يحاولون تغييبها، لكنها أبداً حاضرة كروح -أورسولا- التي ظلت فوق سماء دمشق نجمة الصبح الجميل، فقد كانت في درسها الأعلى، خلاصة دور وفهم عميقين لما تعرضت له سورية، من حرب متعددة الأبعاد عليها، بما امتلكته أورسولا من أدوات تعني الفكرة والقيمة أولاً، قبل أن تتجلى في أعمالها، ومدى ما تتيحه تلك الأعمال من الوقوف عند دهشة اللون وثراء الفكرة والدلالة الباهرة التي شكلت مكونات وعيها، فهي إذن نسيج هوية لا تعرف يوماً الانغلاق، بل الانفتاح على الآخر، بقدر أتاح لها الزخم الموضوعي، فضلاً عن شفافية روحها تلك التي رقدت بسلام مطمئنة على نصر تحقق، والأدل في ما قدمته هو جمال الحقيقة، كيف يشكل متناً لاستبطان أعمالها في الدلالات القصية، وليس في الدلالات الراهنة فحسب، وهذا في عقد التاريخ واستحقاق ما هو قادم، أي تنامي الوعي الكوني بحقيقة دور سورية التاريخ والحضارة في وعي العالم الآخر، سواء لجهة التشكيل أو سائر الفنون الأخرى، مثلاً كان على خط الرؤيا عالمة الآثار (أجاثا كريستي) التي زارت سورية فأبهرتها ووثقت ما رأته، وليس ببعيد ما قاله الروائي البيروفي (ماريو باراغاس يوسا) عن دمشق ذات حدث أدبي، وما وشى به لحضور قرأ مدوناته السردية طويلاً.
أورسولا نبض بها قلب دمشق رسالة للعالم محبةً وجمالاً وإبداعاً.
أحمد علي هلال