عار ترامب.. فضيحة المملكة
يُفصح التراشق بالتهديدات المتبادلة بين الرياض وواشنطن على خلفية قضية الإخفاء القسري للصحفي جمال الخاشقجي عن أمور كثيرة ومتعدّدة، لكنها على كثرتها تدور جميعها بين حدين اثنين، عار ترامب وفضيحة المملكة، وهما أمران لم يعودا يحتاجان للتأكيد في عالم اليوم، وبكلمة أخرى أصبح “القول” فيهما نافلاً بامتياز.
والحال فإن ترامب أضاف إلى سيرته الذاتية عاراً جديداً، كما وصفته “نيويورك تايمز” بعد أن عدّدت سوابقه في حماية جرائم المملكة، حين استثنى من العقوبات “القاسية”، التي هدّد بها الرياض، مبيعات الأسلحة ليقول للعالم، وبالانكليزي الفصيح: إن المال أهم من المبادئ، وإن الوظائف التي توفّرها صناعة الأسلحة والاستثمارات السعودية فيها أهم من الإنسان وحقوقه ومن الدماء كلها، خاصة وأن الدماء التي لطّخت أروقة القنصلية السعودية في اسطنبول هي مجرد دماء من الدرجة الثانية، مثل كل الدماء التي شملها سابقاً “الحزم الملكي” الفالت من عقاله هنا وهناك، وليست دماء زرقاء مقدّسة، وإن حاول صاحبها جعلها كذلك، حين تمثّل هيئة السيد الأبيض في كل شيء، فاعتنق مبادئه، وكتب في وسائل إعلامه، وسوّق لسياساته، بل وحارب تحت رايته في أفغانستان ببندقيته وفي غيرها بلسانه وقلمه.
وفي الجانب الآخر كانت تفاصيل رد المملكة المزمع على التهديد الأمريكي، والتي كشفها صحفي مقرّب من القصر، هي الفضيحة بحد ذاتها، لأنها، أي التفاصيل، تعني أولاً وقبل كل شيء آخر أن سياسة المملكة ومواردها النفطية وأموالها الهائلة، ومنذ تأسيسها، لم تكن لمصلحتها ومصلحة العرب والمسلمين، كما كانت تقول، ويتغنى بترداد ذلك بعض مثقفي النفط الأسود -بعضهم يصفها بمملكة العروبة والخير-، بل لمصلحة واشنطن أولاً وأخيراً، كما كان الجميع يقول، لكن الفضيحة لا تقتصر على ذلك، بل تتعدّاها إلى اللهجة المتغطرسة التي حفل بها البيان، والتي تضمر بين ثنايا حروفها دفاع “مملكة الإنسانية”، كما وصفها أحد ساسة البترودولار، عن “حقها” في قتل رعيتها أينما كانوا، واستنكارها قيام أي جهة باستنكار ذلك، بل تهديدها بتغيير تحالفاتها الاستراتيجية إذا لم يسمح لها الغرب بممارسة ما اعتادته، وما اعتاد هذا الغرب أن يصمت عنه لقاء الوظائف.. الوظائف.. الوظائف.
وبعيداً عن العار والفضيحة معاً، يبدو من المؤكّد أن التهديدات المتبادلة ليست إلا استدراجاً “للبازار” وللتفاوض حول ثمن الصمت عن الجريمة، فكما أن “الرد” السعودي هو مجرد تهديدات وهمية ليس في قدرة المملكة تنفيذها، سواء في قضية تغيير التحالفات الاستراتيجية، أو أسعار النفط، أو “تصفية أصول واستثمارات الرياض في الحكومة الأميركية والبالغة 800 مليار دولار”، فدون ذلك كرسي آل سعود ذاته، لأن معادلة “المال مقابل الحماية” هي المعادلة الوحيدة التي أبقت آل سعود على كراسيهم لهذه المدة الزمنية الطويلة، كذلك أيضاً، ومن الجهة الأخرى، ليس التهديد “الترامبي” بعقوبات قاسية إلا على شاكلة تهديد ألمانيا وبريطانيا وفرنسا المطالبين بـ “ردّ تفصيلي” وإلا..!!، وعلى شاكلة المماطلة التركية في كشف حقيقة ما حدث بصورة رسمية بدل التسريبات التي تؤكّد النية الابتزازية بدل أن تنفيها، جزء من هذه التهديدات موجّه للصورة الداخلية الإنسانية لحكومات هذه الدول، والجزء الأكبر والأهم مخصص للابتزاز المالي البحت، خاصة وأننا عالمياً، في لحظة انقلاب استراتيجي في موازين القوى الكبرى وصورة العالم الجديدة، بما لا يسمح للغرب بفقدان هذا المصرف الهائل، كما لن ترضى “إسرائيل”، إقليمياً، بخسارة كل ما بنته في السر والعلن مع هذا الحليف التاريخي الأهم في المنطقة كلها.
نهاية القول: قد، ونقول قد، توزّع الدماء التي سفكتها المملكة في اسطنبول على بعض العناصر غير المنضبطة مثلاً، أو تستثمر ضد طرف ثالث، فيما المؤكّد أن أموالها ستوزّع على الدول العظمى، مع احتمال تغيير بسيط في توزيع “الطرابيش” داخل العائلة ذاتها، وكفى الله “العالم الحر” شر الخسارة والعقاب.
أحمد حسن