الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في حضرة الشعر

عبد الكريم النّاعم

بعض المواقف، في بعض الجلسات تستقرّ في الذاكرة حتى تصبح شجرة دائمة الاخضرار، لا يطالها الَيَباس.
قبل أربعين عاما، وتزيد، زارني الصديق الشاعر الفلسطيني المعروف المرحوم أحمد دحبور، ومع مستلزمات الجلسة، الماديّة والمعنويّة، مددتُ يدي إلى ما هو أصغر من كتيّب في حجمه، كبير في مضمونه، وفي فيض عبقريّته، وكانت قصيدة “عبد المعين الملوحي يرثي نفسه قبل الموت” حديثة الصدور، والعنوان يستدعي إلى الذاكرة قصيدة مالك بن الرّيب يرثي نفسه، وهو فيما بين يديّ لا يستدعيها فقط، بل يعتمد على روحها، وزناً، وقافية، ويلتزم تلك القافية حتى نهاية السّروة المستطيلة، وهي من نظام العمود الذي لم يتجاوزه أستاذنا الملّوحي، وبدأتُ بالقراءة، وبعد أنْ خيّم السكون، وأخذتْنا أبيات القصيدة، واندمجنا في عوالمها المتشابكة المورقة،.. فجأة ارتفع صوت أحمد دحبور صارخاً:” يكفي، منشان الله”!!
وتوقّفتُ متطلِّعا، مستغربا، فتابع:” هذا شعر يضيّق الخلق، أتعرف لماذا؟ لأنّ مَن يسمعه يتمنّى لو كان هو شاعره”.
انفرجت أسارير قلبي، فبهذه الرّوح كنّا نتعامل مع الإبداعات الجميلة، دون خوف من فكرة أنّ حضورها يُلغي أيّ حضور آخر، وبهذه الرّوح أمضيتُ السنوات المديدة من عمري، وأنا أشارك في تقييم المسابقات الشعريّة التي كان يقيمها فرع اتحاد الكتاب العرب بحمص، وثمّة من يذكّرني، في أوقات متباعدة أنّ أوّل فوز له كان في تلك المسابقات، وكيف كنّا نحتفي بالأجيال الشعريّة الطالعة من بساتين الكلام، ولم أشعر في يوم ما، أنّ هذه الموهبة يمكن أن تتمكّن، وترتقي، بحيث تتجاوزني، أو تتجاوز غيري، فأنا لم أؤمن أبداً أنّ نبتة تزيل نبتة، بل تؤازرها، وتُخاصرها، وتؤنس خُضرتها، أقول هذا الآن بعد أن لاحظتُ، وعسى أن أكون مخطئا، أنّ ثمّة من يحاول إقامة السدود في وجه تدفّق الينابيع الصافية، ليمنعها من الجريان!!
أيّها القادمون إلى غابات المعاني، وخُضرة المشاعر، لاحظوا أنّه منذ الآلاف التي نعرفها من عمر الشعر لم يُلغ أحد الآخر، قد يحجب بعض أشعّته إذا كان شديد التوهّج، ولكنّه لا يُلغيه، الشاعر الحقيقيّ لا يُلغيه احد.
أقول وفي البال ما سمعتُه من الشاعريْن الشابين سنّا، الضاربين في الفضاءات المورقة للكلمة، حسن بعيتي، ومحمد علي الخضور، وإذا كان بعيتي قد عُرف على مستوى واسع عن طريق مسابقة أمارة الشعر، فإنّ محمد علي خضور منذ أن سمعتُه لأوّل مرّة، ولأوّل قصيدة، التفتّ إلى مَن حولي من الشعراء الحاضرين، فتلاقت معاني العيون لتقول: “هذا شاعر”.
أنظروا إلى الأجيال الشعريّة المتتابعة في مدينة حمص، المدينة التي حيّرتْنا في سرّ هذا الّتتابع فيها، لم يستطع أحد إزاحة شاعر عن موقعه الذي تبوّأه بجدارة، وما تزال عطاءات البعض مستمرّة منذ أكثر من نصف قرن، فليفتح البعض نوافذ قلبه لتنسّم عبق الإبداع، الذي من نعم الله فيه،.. حين تستعر،.. أنّه حرب بالكلمات.
aaalnaem@gmail.com