الحد من النزعة الاستهلاكية مدخل للحد من الشعور بالفقر
شكاوى الفقر تتردد على لسان الكثيرين، أكان هذا الفقر مدقعاً أو نسبياً، ادعاء أو حقيقة، فحالات الفقر تختلف بين زمان ومكان، وأسرة ومجتمع، فبعض الأغنياء يشكون فقرهم عن امتلاك المزيد مما يشتهون من قصور وعقارات ومركبات، وفرص الترف التي يرغبونها، وكثيرون ممن هم في حالة مقبولة من اليسر، دخلاً وسكناً ورفاهية ولباساً وطعاماً، يشكون فقرهم الذي يدعونه كعجزهم عن شراء سيارة خاصة، أو ضعف إمكاناتهم في تأمين كميات من الوقود تسمح لهم بالمزيد من الاستخدام الترفي للسيارة الفارهة التي بحوزتهم، أو عدم قدرتهم على شراء بيت نموذجي أو عجزهم عن فرش مسكنهم الحالي بمفروشات مميزة، وتجهيزه بأدوات كهربائية عالية النوعية، أو اقتناء لباس مميز غالي الثمن، أو عدم تمكنهم من الحصول على أفخر الطعام وأنواع الشراب، ويرون أن هذا من حقهم أسوة بالكثير من الأغنياء الذين يرونهم متمتعين بما يتمنوه.
وآخرون يشكون فقرهم النسبي الذي يحد من قدرتهم على تأمين مسكن ذي مساحة متوسطة، مجهز بمفروشات لائقة نسبياً، ومزود بنوعية مقبولة من بعض التجهيزات الكهربائية الضرورية، ويشكون ضعف دخلهم الذي يحد من رغبتهم في اقتناء ما يرغبونه من متوسط اللباس والطعام والشراب كمية ونوعية.
وشريحة ثالثة هم أولئك الذين يشكون فقرهم المدقع الحقيقي المتمثل بعجزهم عن تأمين مسكن يؤويهم، ولو بأصغر مساحة وبأدنى كلفة وأقل المفروشات والتجهيزات، وضعف قدرتهم عن تأمين أجور النقل لسفر مضطرين له، فيعزفون عنه أو يذهبون سيراً على الأقدام، أو عجزهم عن تأمين خبز يومهم وبصلة رغيفهم، وقلم ودفتر ابنهم في المدرسة، وعن تأمين أخف الثياب نوعية وقيمة، بما يستر أجسادهم، ويقيهم حر الصيف ولسعة برد الشتاء، وينتظرون بعض العون الاجتماعي، الذي تقدمه بعض الجهات الخيرية، أفراداً أو منظمات.
من المتوجب والضروري جداً التوقف ملياً عند من يعانون الفقر حقيقة، وخاصة شريحة الفقر المدقع، على اختلاف حجم وجودها بين زمان ومكان، والمتجلي فقرها عبر التمعن بواقعها السكني والأسري اللذين يظهران ذلك، خاصة أن قسماً كبيراً منها يحظى ببعض العون الخيري، مجتمعياً أو منظماتياً، ولكن حقيقة الأمر وواقع الحال يظهران، أن كثير من حالات ادعاء الفقر في غير مكانها، بدليل أن حجم الإنفاق الفعلي – قياساً بالشكوى – لكثير من شاكين الفقر يؤكد ذلك، أياً كانت أوجه هذا الإنفاق، وينطبق ذلك على نسبة من الشريحة المتعارف عليها اجتماعياً أنها فقيرة، ولكن ظاهر إنفاقها الفعلي يناقض شكواها الإدعائي، فمصروف الكثير من الشاكين من الفقر – النسبي بما في ذلك بعض المدقع – ملحوظ أكان فيما يخص مصروف أطفالهم اليومي، أو نفقات اللباس والتعليم الخاص المنزلي والمدرسي لأبنائهم، أو استهلاكهم المتتابع من المشروبات والتبغ والأركيلة، ونفقات الانتقال، واقتناء واستخدام الخليوي.
إن متطلبات العيش الكريم حق لكل مواطن، وهو معني في تأمينها، مع الأخذ بالاعتبار أن توفر جميع المتطلبات المرغوبة بسوية واحدة لجميع المواطنين، أمر غير ممكن وغير واجب التحقيق، فالدولة تؤمن التعليم والطبابة والرغيف والماء والكهرباء، وخدمات المرافق العامة بسوية واحدة للجميع، ولكن ليس بمقدورها أن تؤمن سوية علمية وعملية واحدة لجميع مواطنيها، وليس بمقدورها أن تؤمن فرص عمل لجميع الراغبين في العمل في الجهات العامة، وليس من العدالة أن تتجاهل المؤهلات والمهام وتمنح راتباً موحداً لجميع العاملين لديها، وليس من حق المواطن أن يغرب عن باله دوره الأساس في تخفيف حالة فقره، عبر تحسين دخله.
خلاصة القول: مدعاة للسرور وقطعاً لكثير من التشاؤم، فمن المتوقع والمأمول والمعمول له، أن قطرنا سيشهد خلال السنوات القادمة تهاوي الفقر الحقيقي المشكو منه تدريجياً، خلال عملية إعادة عملية الإعمار المنشودة، والتي ستتيح فرص عمل تتطلب أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة، ولكن ليس فقط في القطاع العام، بل أيضاً في القطاعين الخاص والأهلي لدورهما الكبير في ذلك، وعلى الجهات الرسمية إصدار العديد من التشريعات، وتقديم كافة التسهيلات التي تؤسس للقادم، وعلى الشاكين من الفقر النسبي أن يرفعوا من إنتاجيتهم التي ترفع دخلهم، وعلى الجميع أن يقننوا استهلاكهم من كثير مما هو غير ضروري، فالحد من النزعة الاستهلاكية مدخل للحد من الشعور بالفقر، وعلى مدَّعي الفقر افتراء، أن يخجلوا من أنفسهم، وألا يتجنوا على من هم في يسر حلالاً زلالاً، من عرق جبينهم، وأن يصبوا جام غضبهم على كسبة الحرام، الذين عليهم أن ينتظروا، أي منقلب سينقلبون.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية