الطبطبة على كتفي!؟
د. نهلة عيسى
شاهدت في منامي أول أمس فجراً صافياً كوجه طفل, ومدينة لا تشبه المدن على شاطئ بحر تعابث قدماي رماله المبتلة, وريحاً بكراً خجولاً تطارد المراكب على صفحة الماء, وبضع قواقع تتأمل بفضول صيادا يلملم خيوط صنارته كيوم اشتراها, وعلى وجهه خيبة اكتشاف الثري كساح المال عن قتل الملل, ومونولوج في داخلي يدور: هل أدخل البحر, أسبح باتجاه سفينة نجاة تحملني إلى موانئ لا تعرف الحرب, أم أطبطب على كتف الصياد الخائب الحزين, أم أبصق على الصنارة, تذكرني بسنين طويلة, كان فيها الوطن بحراً نصطاد من جوفه ما نصطاد دون الحاجة إلى صنانير, ثم نغسل أقدامنا بمائه وندير الظهر للبحر!؟
استيقظت من نومي أو منامي, وبي نقمة على كل شيء: نفسي, الصباح, العمل, وعمر صار أقصر من الأماني, ما إن يفتح الفرح فيه باباً, حتى يغلق الحزن فيه ألف باب وباب, والمشكلة أن الجروح لم تعد قصاصاً, وجروحنا مهرجان يرتاده الفجار, التجار, القراصنة, يعقدون المزايدات والمناقصات, ويتبادلوننا هدايا, وأنا كأي بوم عاش في ليل الوطن تأسرني فكرة النعيق في وجه من تعاقدوا علينا منا, مع من ليس منا: أيها العابرون فوق جروحنا, عندما غفوت منذ أكثر من سبع سنين, بعد عودتي من سفر طويل, كنت أسأل نفسي: لم قلبي مقبوض, لم أنا حزينة!؟ في الصباح وجدت الجواب, ومن يومها في كل صباح, أصب التعالي في فناجين قهوتي, ماءً لظمأ ناري في الضلوع, ومتراساً في وجه الصقيع, وقامة منصوبة في وجه الانحناء, وأتمنى في سري كأي كسيرة, أن أصحو يوماً ويكون كل ما نحن فيه مجرد منام!!
استيقظت ناقمة حتى من صبري, الذي بات طبقاً بارداً أتناوله كل يوم, وكأنه لعمري شريك, والمشكلة أنه ليس اختياراً, ولكنه السبيل الوحيد لمواجهة دوار التحديق في الصخر على حافة المذبحة بانتظار عودة الرشد لأبناء يعقوب, ويوسف ما يزال ضحية حسنه, وأسير غيرة “زليخة”, والمنازل أضرحة, والقلوب أضرحة, والمدى أضرحة, وحمل النعوش بات عزاء عن موت قريب, ومدن الألف عام, صارت مدناً للدمار, ترتقي كل يوم درجاً لمقصلة, ولكنها لا تنحني!!
استيقظت ناقمة, وقررت أن لا أذهب للعمل, أنا حزينة, أنا مريضة, أنا غاضبة, ومن حقي التكور في حضن بيت لا يراني منذ سبع سنين إلا في الظلام, أتجول في غرفه كالأشباح, أبحث فقط عما يجب أن أرتديه في الصباح, وأردد في سري أنه لا وقت للبكاء, كلنا شهداء, هذه خرائط مدننا صارت هجيناً من الأسماء, ومزيجاً من الثقوب والعوار, تقول قول عيسى بن مريم: مملكتي ليست من هذا العالم, لو كانت مملكتي من هذا العالم, لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود.
استيقظت ناقمة, لأن خدام يسوع سلموه لليهود, والغريب انه وهو على الصليب, طلب لقاتليه المغفرة! ومأساتنا أننا أحفاد ذلك المقدس المصلوب وليس أمامنا خيار سوى رشق المدية في الحائط والقتال ليل نهار كي لا نسمح لكل من باعونا تحت عناوين متناقضة عديدة بالخطابة فينا في ساحة الشهداء, فوجوهنا مغسولة من العار, وظهورنا لم يمتطيها ركاب الإبل, ولم يعد في العمر بقية لبيع الروح للشيطان رغم النقمة على الصبر!!
استيقظت ناقمة, ونظرت في مرآتي, وأخبرت ذاتي أني هذا الصباح قبيحة, ثم تذكرت: يوسف بن يعقوب أشقاه الحسن, لكنه بعد الغدر, صار عزيز مصر, وآل إليه خراج المدينة, وزحف إليه الغادرون يستجدون القمح, وإليه اخترق يعقوب فاني العينين من البكاء صفوف الجند, ليتحسس وجهه, والستر الفاصلة، وقال برغم العمى: يوسف أنت, ولذلك تحسست وجهي من جديد, طبطبت على كتفي, وأخبرت نفسي: من حقك النقمة, نحن بعد الستر الفاصلة, نتحسس وجه الغد, وهناك من فينا يريد موت يعقوب, وعودة يوسف إلى السجن, فهل في أواخر الطريق ستستسلمين؟ وأجبت عن نفسي: إنني لا أملك ترف الاكتئاب, ولن أقبل “طبعاً “أن أنحني, سأتابع نزيفي تحت قناع التجلد, ولكني أرفض أن أفر!؟