إلى أن يسترد الشرق هويته
بعيداً عن الحسابات الاقتصادية وأرقام الأرباح والخسائر الجافة والجاهزة، تشكّل إعادة فتح المعابر الحدودية نوعاً من الاعتراف الضمني بفشل مؤامرة تقسيم سورية أولاً، ومعها كل خطط وطروحات المناطق العازلة أو الآمنة أو المغلقة، وإقراراً مسبقاً أيضاً بسيادة الدولة السورية على أراضيها كافة بغض النظر عن المآلات والأوضاع الأمنية، وخاصة في المناطق التي لاتزال خاضعة لسيطرة المجموعات الإرهابية بكل مسمياتها التكفيرية والانفصالية، وهي فوق ذلك تأكيد على وحدة الأراضي السورية بحدودها الجغرافية الثابتة، والمعترف بها في وثائق الأمم المتحدة، في مرحلة زمنية لعل أبرز سماتها أنها مفتوحة على حدود متحوّلة ورجراجة بفعل السيلان الإرهابي الذي يضرب الشرق الأوسط، على الأخص، منذ أن تنطّعت ملكيات ومشيخات البترودولار بمهمة قيادة العالم العربي، بوكالة حصرية، وبفعل مقايضة تاريخية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن ثرثرات انتعاش التجارة ونمو حركة التبادل هي التي تطغى على السجال الراهن، إلا أن من المفيد التأكيد على حقيقة أن سورية قد تكون الوحيدة التي تمكّنت، ويمكن أن تتمكّن، من الخروج بـ “سلام” من محنة على شاكلة السنوات السبع الرهيبة، بمعنى أنها استطاعت الحفاظ على وحدتها المؤسساتية والجغرافية والترابية في مواجهة رهانات إقليمية شبه جماعية، ولربما لاتزال مستمرة وقائمة، على تقطيع أوصالها، وتمزيقها إرباً إربا، وإلى ما لانهاية، وهو ما ليس مؤكداً مع دول أخرى تعاني درجات لا يستهان بخطورتها من الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وقد لا تتحمّل مجرد خضّات أمنية، وليس حروباً هجينة؛ وتلك على كل حال هي السمة العامة لبلدان الشرق الأوسط خلال الفترة الحاضرة، فهذا الشرق، وحتى إشعار آخر، سيبقى عرضة لعمليات متسلسلة من إعادة التفكيك والتركيب تبعاً للاعتبارات والمصالح الاستعمارية الجديدة. وإذا كانت سورية قد برهنت عن كونها النواة الصلبة العصيّة على التحطّم والتفتت في قلب الشرق الأوسط الحديث الغارق في الخيبات والانكسارات المتلاحقة، والمشبع بروح الرفض وعدم القبول والتمرّد، فإن التواضع المعرفي يفرض الاعتراف بحقيقة أن “الربيع العربي” مرشّح اليوم لدورة عنف ثانية، وأن شتاءً جديداً ينتظر بعض الدول العربية والإقليمية، وقد يكون أشد قسوة ورعباً من سابقه، ولربما شكّلت مستجدات أمنية بحد ذاتها فرصة للعودة بهذا “الربيع” إلى نقطة بدايته الافتراضية الأساسية، والمتمثّلة بالعمل على تفكيك، إن لم يكن تقسيم، الجزيرة العربية.
إذا كان لمثل هذا التحليل أن يحظى بشيء من الاستشراف والمصداقية، فإن علينا أن نعيد فتح معابرنا الحدودية ليس بناء على معطيات اقتصادية جامدة ومنتهية، بل انطلاقاً من تصوّرات ديناميكية تعطي اقتصادنا القوة والمرونة الكافية، وتمنحه القدرة على الاستمرار والنمو في بيئة إقليمية غير مستقرة وقابلة على الدوام للتقلب والتفلت؛ وقد يكون مثل هذا الطرح مفرطاً في غرابته ولكنه يستند إلى الواقع الغريب ذاته الذي تعيشه منطقة لا يبدو أنها مرشّحة للهدوء خلال الفترة القريبة القادمة، ولا يريد لها أحد أن تسير في ذلك الطريق.
فقط يمكن لبلد مثل سورية، بصفته وطناً حقيقياً يحوز على وعي الانتماء والثقافة المشتركة والتاريخ الضارب في عمق الحضارة الإنسانية، والمصير الواحد، أن يواجه اختبارات على هذه السوية من العنف والترهيب والدموية، ويمكن لمجتمع يختزن عوامل قوة كامنة، مثل المجتمع السوري، أن يتحمّل كل هذه الدرجة من الضغوطات المعنوية والاقتصادية والسياسية دون أن يذوب في انتماءات بديلة مزيفة يبتدعها، ويفتح الطريق إليها مباشرة، دهاقنة الحرب وأرباب الأزمة؛ ولكن سورية، وبعيداً عن أية تفسيرات شوفينية، تبقى نسيج ذاتها إلى أن يسترد الشرق الأوسط هويته الأصيلة كمنطقة عروبية حضارية.
للأسف، وبعيداً عن أية نزعات تشاؤمية، يبدو من المبكر الحديث عن العودة إلى مرتسمات ما قبل 2011 الاقتصادية بآفاقها الوردية. لقد تغيّر الشرق الأوسط، وهو لم يستكمل حتى الآن دورة تغيّره – وعنفه. وفيما تظهر الغنائيات الاقتصادية القديمة مجرد خردة فكرية غير مجدية وغير مؤهّلة لبناء اقتصاد مقاوم يستوعب العقوبات المستمرة ويتعايش مع الحصار في الحدود الدنيا للتأثّر ويلبي تطلعات ومطامح شعب صامد يستحق مكافأته من خلال عملية إعادة إعمار متكافئة وشاملة واستراتيجية.
بسام هاشم