ثقافةصحيفة البعث

“شمس بيضاء باردة”.. أرواح غرقت في طوفان تساؤلاتها

 

“ترى ما الذي كان سيحدث لو أصرّ إبراهيم على تقديم ابنه أضحية لله بدلاً من الخروف، ماذا لو استجاب لكبريائه ورفض أن يرتهن لمزاجية السماء؟ ماذا لو عزّت عليه عذاباته وصراعاته وأسئلته التي عاشها وهو يقود ابنه للذبح، فانتقم لها وظل مصراً على تقديم ابنه أضحية بدلاً من الخروف، هل كانت السماء ستشعر بالندم؟!”.

هي ليست تساؤلات أحمد وحده بل لعلها كثيراً ما كانت تراود صديقيه من قبل، إذ يفكر “راعي” قليلاً يدهشه السؤال يستدرك الأمر ثم يقول:

أنا أيضاً في الحقيقة فكرت في هذا السؤال سابقاً، إنما من جانب آخر، يبدو لي أنه كان يجب على إبراهيم أن يرفض من الأساس قتل ابنه كي يثبت طاعته للسماء، فخضوعه يعني تماماً أن ترتكب جريمة بحق إنسان آخر كي تبرهن على طاعتك وتحظى بخلاصك أنت، ربما هنا بالذات كان يكمن مغزى ذاك الامتحان؟ ربما كان الله ينتظر من إبراهيم أن يرفض، لكنه خذله وأطاع؟.

بالمقابل تتفاعل توترات ومخاوف كامنة وراكدة في داخله تدفع مازن للصراخ بوجه أحمد قائلاً: “ما هذا الهراء الذي تقوله؟ أنت ببساطة شخص مأزوم وتهذر بكلام لا تعرف عاقبته، السماء شيء مختلف تماماً عما تقول”.

حوارات تمر في ذهن “راعي” ذكريات وهلوسات امتدت لعدة ليالِ أمضاها في غرفة وضيعة دفعته للإقامة فيها ظروفه الصعبة، وهي لا تصلح أن تكون سوى قبراً إذ لا نوافذ لها وشبح ساكنها السابق لا ينفك يقلق منامه في كل ليلة أمضاها فيها ليصبح كابوسه الدائم، بينما لم تكن حياته من قبل بأحسن حال منها وهو يكابد الانسلاخ التام عن واقعه: “فكرت في أن أسوأ ما يمكن أن يحدث للمرء في هذه الحياة هو أن يكون شخصاً مهتماً بالثقافة يعيش فقيراً ومعدماً في مجتمع رجعي ينبذه، لدى أبٍ يكره المعرفة وجشعٍ يجل المال ويحتال على الآخرين لينهبه منهم، ويصلي في الوقت ذاته ولا يكف عن قراءة المواعظ، أن يكون مثلي ومثل أحمد الذي يعشق الشعر ويغرم بالأسطورة، ويحفظ ملحمة جلجامش عن ظهر قلب، لكنه لم يفقد ثقته بالله، وما زال يستجدي عدالته”.

أحمد الذي بقي حتى النهاية يبحث عن الأجوبة عن العدالة، عن الحب، عن معنى ما، أي معنى: “إنها الغابة يا صديقي، تلك التي ذهب إليها جلجامش مع صديقه أنكيدو كي ينتصرا معاً على حارسها، ويكمل قائلاً “تبين لي أنني في الغابة، بيد أنني الشجرة التي يقطعها الآخرون وقوداً لرخائهم، لست أدري من أين تأتي هذه القسوة؟ من هو الذي يعطي الحطّاب فأساً ويجعل الشجرة عاجزة ساكنة بلا حراك؟ لماذا يحدث هذا الطوفان اليومي، فيغرق المعذبون وتمتزج أرواحهم بالطين، وينجو الأشرار ويحظون بالمباركة؟”.

ثلاثة نماذج لأشخاص تقدمهم “كفى الزعبي” صاحبة رواية “شمس بيضاء باردة” هم الصورة عن حال المثقف عندما لا يتاح له أن يعيش قناعاته وقيمه ومناقبه في مجتمع يبني الجدران بينه وبين التغيير وإشغال العقل، هكذا ستنتهي بهم الصراعات النفسية إلى الضياع والنهاية الماسأوية، سيلجأ أحمد إلى قطع شرايينه، وينكفئ مازن إلى معتقداته التي لم يستطع الخلاص منها بينما يُساق راعي إلى المصح صاغراً وهو يفكر: “لم أفهم لم ألبسوني قماشاً أبيض، له كمان طويلان، أدخلوا فيهما يديَّ وربطوهما خلف ظهري” سيتوقف ذهنه عن التفكير ولن يقدر على تفسير الأشياء والأفكار كما كان يفعل من قبل حين كان يفكك الأسطورة وينزل جلجامش وأنكيدو من عليائهما إلى الواقع الذي يحياه، يسقط التاريخي والأسطوري على الحاضر وواقعه الذي يعيش فيه بكل فهم ووعي، إلا أن ذكرى واحدة كانت تعيد إليه الحس البشري العاقل: “مشهد لامرأة تغني لشجرتي ليمون عند نافذتها، ومع أن أغنيتها كانت طافحة بالهراء، غير أن هذا المشهد يبعث في نفسي حزناً فظيعاً، لسبب غامض، فلم أقو على مقاومة دموعي، ورحت أبكي، وأنتحب مثل طفل صغير”. ربما هي عائشة البلهاء التي لازمته شبحاً في يقظته ومنامه وحتى نهايته المجنونة.

في روايتها تطرح الزعبي أسئلتها الوجودية عبر حوارات أبطالها الثلاثة، تتساءل حول الحياة، الموت، الخلود، الله، الدين، والمجتمع، بألسنتهم يقول راعي: “ركضت خلف الخروف الحزين الذي أفلت من يدي، كان أبي فرض علي أن أشارك في عملية الذبح، كي أكتسب شيئاً من الرجولة التي أفتقدها كما يعتقد، وكنت رضخت ليس له أو لاعتقاداته بشأن الرجولة، إنما لرجاء أمي التي خافت أن يتحول العيد بسبب رفضي إلى كابوس”.

ثم تنتقد مجتمعاً منغلقاً على ذاته متخلفاً يقيم الحواجز بينه وبين الآخر ويحمل له العداء فهو لا يشبهه ويبدو مختلفاً عنه إذ من المتعارف والمتوارث أن لا إيمان ولا سلطة تسود سوى سلطة الله والعائلة، بينما البؤس يحيط بحياة الجميع، والمجتمع يحكم بقبضته على مكوناته البشرية، والأمر غالباً ما يدفع بهم إلى التمرد ومحاولات الانفلات التي سرعان ما تنتهي إلى النهايات الفاشلة أحياناً والمأساوية أحياناً أخرى.  هي رواية روحها فلسفية بمروحة واسعة من قضايا وهموم الإنسان بما فيها قضايا الأنثى التي تناولتها كجزء من واقع عام، نُسجت خيوطها بحرفية شديدة وتتالت أحداثها بسلاسة تنتقد واقع مجتمعات عربية كثيرة من خلال أزمات مثلث الأصدقاء وعلاقاتهم مع محيطهم، تغوص عميقاً في دهاليز النفس البشرية، تضيء على مخابئنا السرية تلك التي نواري فيها بشاعتنا ونوازع الشر التي تسكننا والمستور من رغائبنا المحرمة، وتكشف لنا نهاياتنا المنتظرة تلك التي آلت إليها حال شخوصها، فتحفر في عقل القارئ وتمتلك روحه وتقبض على مشاعره، ثم ترميها للريح كمصائر أبطال الحكاية، وكأنما لا جدوى تنتظر من كل ما يفعله الإنسان بحثاً عن معنى وجوده في هذا الكون.

شمس بيضاء باردة هي العمل السادس للروائية كفى الزعبي  الصادرة عن دار الآداب في بيروت، ووقعتها في معرض دمشق الدولي لهذا العام إذ سبق وأصدرت “سقف من طين، سين، ليلى والثلج ولودميلا، ابن الحرام” بالإضافة إلى رواية “عد إلى البيت يا خليل” التي أصدرتها باللغة الروسية.

بشرى الحكيم