اللغةُ العربيةُ بينَ التشدُّدِ والتيسير
اللغةُ ليست قاموساً أو معجماً للتسميات، وهي كذلك ليست أداة اتصالٍ بين أفراد المجتمع فحسب، إنما هي تمظهر الفكر وصداه الذي يترددُ في النفس البشرية كما في آفاق المجتمع. واللغةُ في إحدى تجلياتها هي ذلك الرابطُ الذي يصِلُ الفرد بمجتمعه، والمساحة المشتركة من أنماط الحياة الفكرية والنفسية وسواها. ولكن كيف السبيل إلى النهوض اللغوي والتنمية اللغوية الشاملة؟!. وإذا كان للغة بشكل عام ذلك القدر الكبير من الأهمية في التعبير عن مكنونات الذات وأحوال المجتمع، فإن اللغة العربية تتصدرُ المكانة الفريدة والمنزلة الراقية بين اللغات الحية، فهي لغةُ القرآنِ، والوعاء الذي اتسع ويتسع للحضارات الإنسانية المتعاقبة، ومنجزاتها المختلفة.
ومما لا شك به أن حالة النهوض اللغوي والتنمية اللغوية الشاملة، يمكن لها أن تحقق المزيد من النجاح إذا ما توافر لها علماء مخلصون تتجسد فيهم الغيرة والالتزام حيال لغتهم، يقومون على رفع شأنها، وتعزيز مكانتها، وهذا ما نقعُ عليه في كتاب “اللغةُ العربيةُ بينَ التشدُّدِ والتيسير” لمؤلفهِ د. ممدوح خسارة الصادرِ عن وزارةِ الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن سلسلة “قضايا لغوية”.
يقعُ الكتابُ في ثمانين صفحة من القَطعِ المتوسط، وفي مقدمةِ الكتابِ يؤكدُ د. خسارة أهمية العمل على تطوير اللغة العربية، عبر رفدِ قاموسها الضخم بمفردات جديدة تناسب التسارع الكبير الحاصل على أكثر من صعيد، فيقول: “اللغةُ العربيةُ في تطورٍ دائمٍ كغيرها من اللغاتِ الحيَّة، وذلك كي تستطيعَ مواكبةَ العصرِ الذي تعيشُ فيهِ، بمتطلباتِهِ التواصليَّةِ والتعبيرية. ويتحققُ هذا التطوُّرُ بتوليدِ كلماتٍ جديدةٍ على أبنيةٍ لم تَرِد من قبل، أو وضع دلالاتٍ محدَّثةٍ لكلماتٍ قديمةٍ لم تكن لها من قبل، أو جمع كلماتٍ على أبنيةٍ لم تُجمَعْ عليها من قبل، أو جمع كلماتٍ لم تجمعها العرب..”.
يُسلطُ د. خسارة الضوء على انقسام اللغويين والنقاد إلى فريقين: متشدِّد، ومُيسِّر، فيقول: “إلَّا أنَّ هذهِ الأبنيةَ المُحدثَةَ والدلالاتِ الجديدة لم تكُن دائماً موضِعَ قبولٍ من جميعِ اللغويين والنقاد، إذ انقسموا إزاءها إلى فريقين: أحدهما: يتمسِكُ بالتشدُّدِ والتضييقِ أمامَ كلِّ جديد، تخوُّفاً من أن يُضعِفَ ذلك حقيقة اللغةِ، أو يُزعزعَ ثوابِتها. وثانيهما: يأخذُ بالتيسيرِ أمام هذا الجديد..”.
ويوضح د. خسارة أن كتابه “اللغةُ العربيةُ بينَ التشدُّدِ والتيسير” يهدف إلى الإسهام في تضييق مساحة الخلاف فيقول: “ورغبةً في الإسهامِ في جَسْرِ الهوَّةِ بينَ التشدُّدِ والتيسير، في هذهِ المسألةِ، وفي غيرها، من مشكلاتِ العربية المعاصرةِ كالموقفِ من العاميةِ والفصحى، ومن تعريبِ التعليمِ وتغريبه، جاءَ هذا الكتاب..”.
قسَّمَ المؤلفُ كتابهُ إلى فصلين، حملَ أولهما عنوان: “التطور اللغوي بينَ التشدُّدِ والتسامح” أوضحَ من خلاله د. خسارة أن “الاختلافَ في النظرة إلى الأمور والقضايا تحليلاً وتعليلاً من طبائِعِ الأشياء ومن سننِ الحياة، ولكنَّ الاختلافَ – وهو شيءٌ مشروعٌ وطبيعي- يمكنُ أن يهدأ ويُقيَّدَ فيفضي إلى تعايشٍ وتوافق، كما يمكنُ أن يُصعَّدَ إلى نزاعٍ فصراعٍ، إلَّا أنَّ هذين الأمرين: التهدئة والتصعيد، ليسا عفويين، بل هُما غالِباً حصيلة جهدٍ ثقافيٍّ تمارسهُ الأطرافُ المعنيَّةُ بالأمر، ونأملُ أن يصبَّ هذا البحثُ في إطارِ جهودِ التهدئةِ والتوافقِ لا التصعيد..”.
أما الفصلُ الثاني من الكتاب فقد وَسَمَهُ د. خسارة بعنوان: “جهودُ مجامعِ اللغةِ العربيةِ في التيسير اللغوي” وفيه عرضَ لنماذجَ من قراراتِ مجمَعي اللغةِ العربية بدمشق والقاهرة، اللذين كانا أرحب صدراً في قبولِ الجديد وتسويغه، وعن ذلك يقول: “ومن الملاحظ أنَّ هذين المجمعين كانا أقربَ إلى التيسير والتسامُّحِ منهما إلى التشدُّدِ والتعصب، وما ذلك إلَّا لرغبةٍ في التسهيلِ ولموافقةِ الجديدِ الشائِعِ من الكلِم، بل انطلاقاً من أصولِ اللغةِ العربيَّةِ، وتفعيلاً لخصائصها في التوليدِ اللغوي والتنميةِ اللغوية”..
نضال حيدر
nedalhaidar1967@gmail.com