الكتبُ.. تلك الرّائحةُ العطرة
أنوثةُ الرّائحة ذكورتها.. من منّا لم يستحمّ برائحة أنوثةِ الطّبيعة وقد تفجّرتْ ينابيعها على مرأى من ذكورة المطر؟. أقصدُ تلكَ الرّائحة الشّاهقة التي تصل بنا حدّ الدّوار، نحنُ سكّان الحواف والمفازات العالية، متصيّدو ثعالب الدّهشة من دغل الخفيّ. فكيف لنا أن نبقى حياديّين أمام مشهديّة هذا العري الكونيّ المنتشي، ولا نشارك في كرنفال المطر، يغسل جسد الكون بموسيقى الخلق والانبعاث. فإذا الكلّ يستحمّ بأجزائه الجذلى، وإذا الأجزاء تذوب في بوتقة الكلّ وحمّاه. هكذا الأنوثة محض غيابٍ مجازيٍّ لذكورة حاضرة عذبة، والذّكورة مجرّد توريةٍ نجلاء لأنوثة غائمة، فاضتْ عن مجرى الجسد المحترق في لحظته الفارقة. ثمّ من منّا لم يستحمّ بأنثاه ذات غدقٍ بهيّ ليخضرّ به الشّيب توقاً لبهاءٍ عتيق، غرّد فيه الجسد كثيراً خارج السّرب وأمطرَ. أعرف أنّك تماديتَ أيّها الشاعر في هتك قميص السّريرة، فجنحَ بكَ المركب نحو شاطئ التّيه، لكن مهلاً، أليسَ الشّعر نحلةٌ المخيّلة تتجوّلُ في حديقة الكون،سعياً لقطفِ الثّمالة الرّاسبة في قاع الزّهرة، زهرة الوجود الحالم؟ّ. أيضاً، ألّا يحقّ لنا التساؤلَ قلقاً: لماذا كلّ الرّوائح تجد فلسفتها في قاموس الرّيح، إلّا “رائحة الخطو الثّقيل” رائحة القضبان الصّدئة، تلك التي تأبى التّحليق مستوطنةً الأقفاص والسّجون.
رعشةُ القراءة
نعم،عشق القراءة يورَّثُ كما خمرة الزّهو، وانتباهة القلب الوارفة، ورفّة الجناح العابث. وحيث الطفولة غيمةٌ بيضاء نخربشُ على فروها ما تمليه علينا أسئلة الهطول المبكر، قبل أن تبدأ لعبة المحو والغربلة مع الزمن، وأيّ محو! إنّها جدليّة الحضور والغياب من يقوم بمثل هذا الفعل الديناميكي. ما نظنّه قد غاب بلا أيّ أثر، نراه يحضر بلباسٍ جديد وقد خمّرته التّجربة اللاشعوريّة. وما نجزم به حاضراً في قبضةِ الكفّ، إذ هو يلوب كزئبقٍ من بين الأصابع. تلك ميزة القراءة، فهي أشبه بأنثى بهيّة مراوغة لا تعطي تفّاحها إلا لمن عرف معادلة التوتر في النّهود العاشقة، أن تستفيق على هذه الدنيا وأنت محاط بحديقة الكتب، تحبو بين مساراتها وقد أخذت بيديك الطريّتين رائحة تقتحم مساماتك بكثافةٍ لا تعرف منشأها، تلك هي التّميمة التي ستحرسك دوماً كلّما أوغلتَ في الطريق، وازدادت أمامكَ كثافة الشّجر. يقول المنظّر الأدبي “تودوروف” عن طفولته: (… في البيت كثرة مفرطة من الكتب..تعلّمت سريعاً القراءة وأخذت في التهام القصص الكلاسيكيّة المعدّة للأطفال، ألف ليلة وليلة، حكايات كرم وأندرسن، وتوم سوير، وأوليفر تويست، والبؤساء. وذات يوم، في سن الثامنة، قرأت رواية بأكملها وكتبت في يومياتي الخاصة: “اليوم قرأت على ركبتيّ جدّي، كتاباً من 223 صفحة، في ساعة ونصف” !وأنا اليوم تلميذ في الإعداديّة والثانوية، أواصلُ عشقي للقراءة.
الدخول إلى عالم الكتّاب، كلاسيكيين أو معاصرين، بلغاريين أو أجانب، الذين كنت أقرأ الآن نصوصهم الكاملة، ما يوفّر لي دائماً هزّة استمتاع: أستطيع إشباع تطلّعي، أحيا مغامرات، أتذوّق ضروب الرّهبة والمسرّة، دون أن تنالني الإحباطات التي تترصّد علاقاتي بأترابي من الأولاد والبنات، الذين كنت أحيا بينهم، لم أكن أعرف ماذا أريد أن أصنع في الحياة ، لكنّي كنت متأكداً أنّ ذلك سيكون ذا صلة بالأدب.
غضب الكاتب “ه”
هل الغضب النّسوي لدى المرأة الكاتبة هو رد فعل بيولوجي أم هو غضب ثقافي تجاه التّهميش الاجتماعي التاريخي الذّكوري لها؟. تستشهد “إيلين مويرز” بـ “فرجينيا وولف” لتؤيد فكرتها باعتبارها “الأكثر تألّقاً من بين جميع نقاد أدب النساء، والأكثر حساسيّة تجاه سمة الغضب النسائي” كما تحاول كلّ من “ساندرا غلبرت، وسوزان غوبار” الإثبات بأنّ: “الغضب هو الدلالة الإيجابية الوحيدة للوعي النسوي”. لقد كانت الكتابات النسويّة تشيد دوماً بغضب النساء الإيجابي معتبرةً إيّاه ردة فعل ثقافية أمام محاولة تعليب وتأطير الأنوثة ضمن قالب الخنوع والسلبيّة، فإذا لم تكن المرأة غاضبة في كتابتها فهذا يعني بالنسبة لهنّ أنّ قيم الثقافة البطريركية قد نجحتْ في احتوائها. لكن ماذا بشأن الكاتبات اللّواتي يقمن بأدوار نضاليّة لمناصرة قضايا المرأة دون غضبٍ، وهل يجوز اختزال أهميّة المرأة الكاتبة بغضبها كصفة ملاصقة لإيجابيّة تمرّدها؟. تقول الكاتبة الأمريكيّة “بودورا ويلتي”: “بين كلّ مشاعري القويّة أعتبر الغضب هو الأقل مسؤوليّة عن أيّ من أعمالي، إننّي لا أكتب انطلاقاً من الغضب”، لكن ثمّة من يقول أنّه مهما موّهتْ الكتابات النسويّة غضبها، فهو يرقد كالنار تحت الرّماد. وهنا يتمّ الاستشهاد بقصيدة “المرآة” للشاعرة الأمريكيّة “سيلفا بلاث” التي يبدو فيها انقسام الذّات المشروخة واضحاً بين السطور. حيث الرفض والقبول للمجتمع الذكوري يتماوجان، حسب تعبير “غلبرت وغوبار” تحت سطحِ المياه الراكدة، ليبدو وكأنّ الأمر مجرّد سردٍ حزينٍ للتقدّم بالعمر وحسب، بينما يخفي التّباهي بالصّدق والدقة ورفض العاطفة والادعاء بمنزلة شبه إلهيّة بصوت البطريركية المسيطر على تفاصيلها: “أنا فضيّة ودقيقة، لا أهواء مسبقة عندي، كل ما أراه ألتهمه فوراً، بالضّبط كما هو، غير مغشي بالحبّ أو الكراهية، لست قاسية، إنّما أنا صادقة وحسب، عين إله صغير، بأربع زوايا، معظم وقتي أقضيه مستغرقة في تأمّل الجدار المقابل، إنّه قرنفليّ، وفيه بعض البقع، فقد نظرت إليه طويلاً ومليّاً، إنّه قطعة من قلبي، يومض ثم يخبو، لكنّ الوجوه والظلمة تفصلنا عن بعضنا دوماً. أنا الآن بحيرة، مالت عليّ امرأة، باحثة في أعماقي عن نفسها، أرى ظهرها وأعكسه بصدق. أما هي فتكافئني بدموعها واهتياج يديها. أنا ضروريّة لها، فهي تأتي إليّ وتذهب، وفي كل صباح يحلّ وجهها محل الظلمة. أغرقتْ فيّ فتاة شابّة، وأنقذت امرأة عجوز. يوماً إثر آخر، تنهضُ فيّ، مثل سمكةٍ ذهبيّة”. أليستْ الصّورة السابقة التي رسمتها الشاعرة استرضائيّة تعكس الغضب المدفون وهو يلتمع ويتفجّر صاعداً نحو السّطح مثل سمكة رهيبة خطرة؟ ما تصرّ عليه الكاتبتان “غلبرت وغوبار” باعتبار الغضب دلالة إيجابيّة وحيدة على الوعي النّسوي. يضيف عليه الباحث الروسي “ميخائيل باختين” قائلاً: إنّ الغضب ليس الموقف الثوري الوحيد المتيسّر لنا، بل إنّ سلطة الضحك يمكن أن تكون أداة فعّالة أيضاً.
همسة في أذن صديقي المثقّف
ثمّة فرصة ذهبيّة أيّها الرّجل الصّغير المتذبذب، أن تكونَ ذاتكَ بأقلّ فصاميّةٍ ممكنة، فقط لو انتبهتَ أكثر لترميم مشروعك الذّاتي المتصدّع، في أيّ المواقع كنتَ، وبعيداً عن شهوة السلطة بكل معانيها، فالسلطة ذاتها كحالة فوقيّة، منشغلة جدّاً في ترميم ذاتها هي الأخرى، تحاولُ إنضاج مشروعها القادم هي الأخرى، بما يتناسب والمستجدّات الطّارئة التي خلخلت بنيتها بقوّة. لعلّك تخرج بأقلّ الخسائر من سجونك النّفسيّة قبل أن يُصار إلى تهجينك بالكامل من جديد. وإلى أن يحين ذلك، دعني أخاف من أن ينمو ديكتاتورك المدفون ثانية متغذّياً على طحالب وأشنيّات الأمس.
أوس أحمد أسعد