أخبارصحيفة البعث

ما سرّ الهجوم الغربي على موسكو؟

 

منذ آذار الماضي، بادرت لندن لاتهام موسكو باغتيال ضابط الاستخبارات الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في مدينة سالزبوري، وادّعت أن محاولة الاغتيال تمّت باستخدام غاز الأعصاب “نوفيتشوك” الذي كان ينتجه الاتحاد السوفييتي سابقاً، وقد جنّدت بريطانيا منذ ذلك الحين جميع أدواتها الدبلوماسية والإعلامية في سبيل إثبات صحة اتهامها، الذي لم يجد له على الأرض ما يسوّغه، على اعتبار أن لندن ترفض إلى الآن التعامل مع الأمر بطريقة مهنية تشرك فيها خبراء روس في التحقيق، أو من خلال لجنة تحقيق دولية مستقلة وحيادية.

لحق ببريطانيا عدد من الدول الغربية، وصولاً إلى طرح الأمر عبر المنظمات الأممية، مع علمهم المسبّق أن الأمر لا يتعلق بما صوّرته بريطانيا من اعتداء استخباراتي عليها لا يجب أصلاً مناقشته في أروقة المنظمات الأممية، فما الذي يدفع أوروبا إلى السير خلف بريطانيا في الوقت الذي يعترف فيه أغلب المسؤولين الأوروبيين بضرورة الحفاظ على الحوار مع موسكو في مسألتي الأمن والاقتصاد؟.

من الملاحظ أن هذا الأمر تمّ بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هذا الخروج الذي لم يكن حاجة بريطانية بقدر ما كان حاجة أمريكية، بدليل أن التصريحات الأوروبية فيما بعد أكدت أن ذلك تمّ بعمل ممنهج تقوده الولايات المتحدة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، وذلك لتتمكّن من الهيمنة على الدول الأوروبية واحدة تلو الأخرى، على اعتبار أن انفراط عقد الاتحاد سيتمّ على طريقة أحجار الدومينو، الأمر الذي يضمن تبعية هذه الدول اقتصادياً وسياسياً لها، ولكن الدول الأوروبية بدل أن تتجه غرباً في علاقاتها بدأت بالاتجاه شرقاً نحو روسيا والصين، حيث أصبح ما يسمّى “بريكست” وبالاً على من بشّر به، ما دفع الولايات المتحدة إلى أن تتجه بذاتها نحو عرقلة هذا الانفصال ذلك أن واشنطن تاريخياً تعتبر أن بوابتها للهيمنة على أوروبا هي المملكة المتحدة، فإذا انفصلت بريطانيا عن الاتحاد، فإن هذا يعني ابتعاد واشنطن عن الـتأثير في الدول الأوروبية، وبالتالي خلق فراغ في المجال الأوروبي لا بدّ أن يقوم الجانب الروسي أو الصيني  بملئه، الأمر الذي قد يأتي بنتائج عكسية بالنسبة لواشنطن، بحيث تصبح لندن هي ذاتها “براقش” التي تسبّبت بالانكفاء عن التأثير في هذه المنطقة من العالم.

إذاً فشلت الجهود الأمريكية في تفكيك الاتحاد الأوروبي عبر دفع بريطانيا إلى الانسحاب منه، وهذا الفشل دفع واشنطن إلى اختلاق الأزمات مع موسكو باستخدام لندن رأس حربة في ذلك، فعملت بريطانيا ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية على صناعة ما يسمّى “روسوفوبيا”، من خلال العمل الممنهج على تشويه صورة روسيا في العالم، وإظهارها على أنها دولة مارقة تطوّر الأسلحة الكيميائية، ولا تتورّع عن استخدامها حتى على مستوى الاغتيالات السياسية، ولكن الأمر لم يتمّ لهم كما أرادوه، لأن موسكو أكدت غير مرة أن لدى لندن ما تخفيه في قضية تسميم سكريبال وابنته، من قبيل أن السلطات البريطانية استخدمت سكريبال في تطوير سلاح كيميائي في مختبرات سالزبوري، حيث وقعت حادثة تسرّب هناك ما جعلها تهرب إلى الأمام باتهام موسكو بهذا العمل، بل عاودوا توجيه الاتهام من زاوية أخرى وهي هولندا، بحيث تتهم الأخيرة موسكو بشنّ هجمات الكترونية على منظمة حظر  الأسلحة الكيميائية في لاهاي، في محاولة لإثبات ما ادّعته لندن في هذا الشأن من جانب آخر، لتتابعها مجموعة من الدول في ذلك لإجبار سائر الدول الغربية على السير في النهج ذاته.

وإذا نظرنا إلى الاتهامات الغربية الأخيرة لموسكو بالقرصنة الالكترونية وخرق معاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية التي وقّعت عليها موسكو، وتخلّصت من مخزونها من هذا السلاح، نجد أنها صدرت من دول أوروبية كانت تعتبر في القرن الماضي من المعسكر الغربي في أوروبا “الرأسمالي”، بينما لم تصدر أي انتقادات لـ”موسكو” من دول المعسكر الشرقي سابقاً “الاشتراكي” مثل بلغاريا وتشيكيا وغيرها، ما يعني أن رفع سقف الضغوط في هذا الإطار سيؤدّي إلى توسيع الهوة بين هذين المعسكرين المفترضين جغرافياً، وبالتالي يتشكل لدينا من جديد أوروبا شرقية وأخرى غربية، الأمر الذي سيؤدّي تلقائياً إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تقسيم أوروبا مجدّداً.

هناك من يحاول مجدّداً في القرن الواحد والعشرين تقسيم أوروبا إلى معسكرين، شرقي يفترض أنه تابع لروسيا، وآخر غربي تقوده بريطانيا، وصولاً إلى إعادة مشهد الحربين العالميتين في أوروبا، ليضرب القوّتين بعضهما ببعض، وبالتالي يتمّ تعويم الولايات المتحدة من جديد قطباً أوحد في العالم، ولكن واشنطن تدرك جيداً أن هذا لن يحدث قبل أن يتمّ وقف التنين الصيني باستخدام الاتحاد الأوروبي الحالي في ذلك.

طلال الزعبي