الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

خُطورة الوعي والتّوعية

عبد الكريم النّاعم

عبر الأزمنة كان للكلام الفصل، البيّن، المنتمي للحقّ، مَن يخاف منه، ويحذره، ويعلم أنّه قد يكون أقطع من السيف، لقد تصدّى رسول الرحمة، لا رسول الإرهاب، كما يروِّج التكفيريّون، لعقائد مجتمعه، والسيئ من عاداته وتقاليده، بالكلمة، الكلمة الحاملة لمعنى السموّ واحترام الإنسان، ومقاومة أنواع الشرّ والاستغلال.

يخطر بالبال هنا تلك المسألة التي ما تزال ماثلة بين “السيف” و”القلم”، ولن أتوغّل في شعابها، ولكنْ يمكن القول أنّ السيف إذا كان صاحبه، الجالس على عرشه، يُقيم الحقّ، والعدالة، ولا يستغلّ، ولا يجور، فإنّه سيجد “القلم” بانياً حكيماً في دولته، إذنْ فالفالق الكبير بينهما هو التطبيق في إدارة شؤون النّاس، وكم من الأقلام باعتْ نفسها، وسخّرت ضميرها من أجل حفنة من الرّيالات والدولارات، وبعض من حملوا القلم ممّن عرفْنا وعايشنا في الحرب الكونيّة على سوريّة، يشكّل نموذجا صادماً لا يكاد يُفهَم، لولا أنّه قائم.

العلاقة بين “اللسان” و”القلم” علاقة عضويّة، ففي الأزمنة القديمة يوم لم تكن الطباعة منتشرة كان القول يسري في أمداء الآفاق والنفوس، ولقد أوْصلتْ إلينا كتب التّراث الكثير من تلك الأخبار، لمن يريد أن يطّلع، ويعتبر، في زمن استهلك فيه العقول، والأفئدة، والعيون، صفحاتُ “التّناثر” الاجتماعي لا “التّواصل”، فهو تواصل اسمي، الانسياق وراءه يُشبه إلى حدّ كبير أكل البوشار، أو “غزل البنات”.

لقد استُعيض عن “اللسان”، لأسباب لا تخفى غاياتُها، بالفضائيّات والمذياع، فذلك لسان لا يكلّ، ويملأ الآفاق والأنفس بالضجيج، وخلط الأوراق، والتضليل، وقليل منها الذي انحاز للإنسان، والعدالة.

ويبدو أنّ الفصاحة، والجرأة، وقول الحقّ كان دائماً يُخيف أصحاب الطغيان.

تروي كتب التّراث العربيّ أنّ “إياساً” دخل الشام وهو غلام صغير، وهو رجل مشهور بالفصاحة، وبُعد النّظر، في زمنه، بل وفيما بعده، “فقدّم خَصماً له إلى بعض القضاة، وكان الخصمُ شيخاً، فصال عليه إياس بالكلام، فقال له القاضي: “خفّض عليك، فإنّه شيخ كبير”.

قال: “الحقّ أكبر منه”.

قال: “اسكتْ”.

قال: “فمَن ينطق بحجّتي”؟

قال: “ما أراك تقول حقّاً”.

قال: “لا إله إلاّ الله”.

فدخل القاضي على عبد الملك بن مروان فأخْبره، فقال: “اقض حاجته السّاعة وأخْرجْه من الشام، لا يُفسد أهلها”.

الذي لفتني في هذه القصّة أنّ القاضي ما إنْ سمع ما سمع، وبجرأة المتملّق، حتى خفّ إلى الخليفة/السّلطة، وأبلغه بذلك، وتلك فعلة يفعلها المرتزِقة، لا أصحاب الضمائر، وهذا يعني أنّ القضاة، يومذاك، في الغالب كانوا ممّن يحكم برغبة صاحب مَن وضعهم في ذلك المركز، لا بمقتضى الحقّ والعدل.

مسألة أخرى هي سرعة تنبّه الخليفة إلى خطورة مثل “إياس” على الرأي العام، خشية إنْ بقي بينهم أن يُفسد الناس بمنطقه/ قلمِه النّاطق، وخطورة الوعي هي خطورة أولى في موازين الطّغاة والجبّارين.

aaalnaem@gmail.com