معضلة الاجتماع الحزبي
حين يطرح الحزب برامج عمله، ومداولاته الداخلية في وسائل الإعلام وأمام الرأي العام من خلال خطاب يستند إلى المراجعة النقدية، وينأى فيه عن الخطاب التمجيدي يكون لا شك حزباً قوياً يستمد شرعيته ومشروعه من تطلعات القطاعات الأوسع من الشعب. وعلى هذا الأساس نقل الإعلام الحزبي وقائع اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث يومي 7-8/10/2018 ، ولقي هذا النقل ارتياحاً واهتماماً من البعثيين وغيرهم. ففي عالم اليوم لم يعد هناك من ينتظر صعود الدخان الأبيض.
من هذا المنطلق يجب مناقشة استراتيجية العمل الحزبي التي يُعدّ الاجتماع الحزبي في القواعد واحداً من أهم أسس تنفيذ هذه الاستراتيجية، نظراً إلى قدرة هذا الاجتماع الكبيرة على تضييق الفجوة بين المركزية والديمقراطية.
فطالما عانت الأحزاب العقائدية خلال عملها على تضييق هذه الفجوة… حتى وصولها إلى صيغة المركزية الديمقراطية، أو الديمقراطية المركزية التي اصطُلِح عليها في الأحزاب اليسارية على أنها خضوع الأقلية لرأي الأكثرية خضوعاً يمنع بالمطلق مشروعية أي تكتل داخل الحزب،.. مع التذكير بأن لينين رأى في المركزية ما يشبه حالة الطوارىء داخل الحزب.
وتزداد هذه المعاناة في عالم اليوم مع تراجع التأثير الشعبي للأحزاب الإيديولوجية والتقليدية مع صعود دور أحزاب تتبنى استراتيجية اجتماعية أكثر منها سياسية، كما أوضح الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد أثناء حديثه في افتتاح أعمال اللجنة المركزية أعلاه، وكان الحديث معرِضاً واسعاً لأبجدية العمل الحزبي، فيه عدد من العبارات والأفكار التي وردت سريعة متتالية مع سلاسة وطواعية، لكنها في الواقع كانت «مقولات» بالأفق المعرفي أو الفلسفي، إن شئت، وقد تم نشرها.
في الواقع، ومن خلال التواصل ميدانياً مع كوادر وقيادات عدد من الأحزاب القومية، والناصرية، والشيوعية في القطر وفي بلدان أخرى، تمت إثارة معضلة الاجتماع الحزبي لديها، وتبيّن حقيقة أن المعضلة واضحة اليوم، وأبرز تجلياتها هو الهاجس المشترك من تراجع الإقبال على الاجتماع لدى القواعد، ويمكن تلخيص أسباب ذلك بالتالي:
1- أزمة الإيديولوجية ونظرية المعرفة بعد ثورة الاتصالات ونقل المعلومة والعولمة، هذه الثورة التي ضاءلت، بل ألغت المفهوم التقليدي لمسألة الزمان والمكان كبعدين كانا موجودين سابقاً بشكل فضفاض. وما يتصل بذلك من الدفع من الخارج بشرائح إلى السطح على أساس أنها تهوى العمل السياسي دون أن يكون لديها وعي سياسي منتمٍ وطنياً.
2- أثر السوشيال ميديا الكبير والخطير والسريع شعبياً، حيث انتهى مفعول التواصل التقليدي، وتم تهديد فكرة الديمقراطية المركزية، وهذا ما جعل هذه الأحزاب تجد حاجة ملحّة إلى حل معضلة الاجتماع الحزبي إذ رأت قياداتها أنها اليوم صارت بحاجة ماسة إليه لتقييد حدود الفلتان التي تطلقها هذه الميديا، على أساس أن الاجتماع حين يكون بدون معضلة يوفّر المنَعة اللازمة لترسيخ الحالة الوطنية زمن الاستهداف.
3- الانعكاس السلبي لوجود قوانين الأحزاب على فاعلية الديمقراطية الشعبية التي تحوّلها هذه القوانين إلى مركزية ديمقراطية كما يرى البعض.. وما يتصل بذلك من اعتبار أن الاجتماع الحزبي يكون أكثر حيوية ومركزية في مرحلة النضال السلبي قبل الترخيص من السلطة.
4- علاقة هذه الأحزاب بالسلطة.. إضافة إلى التحديات التي تفرضها مراكز الأبحاث واستطلاع الرأي ولا سيما تلك التي تستلهم منهجية عملها من المركزية الغربية التي طالما استهدفت الحالة الوطنية التقدمية.
وبالعودة إلى الذاكرة والواقع، فلطالما تغنّت قواعد هذه الأحزاب بماضي الاجتماع الحزبي لأنها كانت ولاتزال ترى فيه انعكاساً لهموم الجماهير، هذا الانعكاس هو الذي يؤهّل القيادات لاتخاذ القرار الصائب والمجدي والقابل للتنفيذ، فيكون مصدر القرار وهدفه من الأدنى إلى الأعلى، وهذا هو المعيار الأهم لحيوية الاجتماع ولفاعليته ولإقبال الكوادر عليه، بعيداً عن العقوبة التنظيمية أو التهديد بها لأن هذا ثبت عدم جدواه، بل إن كل تشدد تنظيمي في مسألة الحضور الفيزيولوجي كان ينعكس سلباً على العمل الحزبي.
في هذه العودة تحضر إلى الذاكرة “في زمن ما” جاذبية الاجتماع لدى الرفاق في إحدى فرق الجامعة، حين الاضطرار إلى إحضار مقاعد من قاعة أخرى، وحين اتخذت قيادة الفرع قراراً بنقل الرفاق المتخرجين إلى أماكن عملهم الجديدة اعترض الرفاق على قرار النقل لأن الاجتماع صار أشبه باجتماع أسروي مترقّب بلهفة، فكان المنقولون يحضرون إلى مكان الاجتماع في الموعد نفسه ليتواصلوا بحميمية اجتماعية ووجدانية وبعثية مع رفاقهم.
وعليه، فإذا كان على الاجتماع الحزبي أن ينهض بأعباء الاستراتيجية الجديدة أو التفكير الجديد، فإن شعبنا في قطرنا وأمتنا في هذا المعترك المصيري بحاجة إلى حيوية الاجتماع وجاذبيته الطوعية، كما هو بحاجة إلى تعزيز المبادىء والثوابت، بالتوازي مع الحاجة إلى التعامل مع الجديد في العالم، وهذا يُسهم في هدف أساسي يجب أن يحققه الاجتماع وهو تنمية الموارد البشرية في الحزب والمجتمع، والحديث يطول… ويبدو أنه ذو شجون.
د. عبد اللطيف عمران
aomraan7@gmail.com