نهاية مستحقة
ازدانت الطبيعة بأبهى حلة, وتلافت بهجة الزمن بابتسام الخمائل والورد حيث تزين جبين الطبيعة بألوان نثرتها يد الخلاق, لتبعث شعور ارتياح لدى الشاب المرهق فيتخيل قربه من تحقيق حلمه في الوصول إلى ديار محبوبته, فهو ذاهب ليخلص صديقة من سجنه، وصل ذاك المكان ليرى رجلاً متربعاً وقد تمزقت ملابسه ورقّ ونحل حتى ذهب لحمه ولم يبق فيه من دلائل الحياة إلا بريق عينيه.. أنهضه وأعطاه ثياباً جديدة، وفي الطريق تحدث الشاب والعجوز عن ذاك الخائن, وبعد أن بدأ العجوز بالكلام اتقدت عينا الشاب ببارق من الغضب وقال: لعل هذا الرجل من أصحابك قال لا إن صداقته لي تشبه صداقة العاصفة لورقة وصداقة النمر لوعل، ولكن لما السؤال؟ فأجابه صديقه لأني أكره هذا الرجل ملء جوارحي، ولولا يقيني أنك تكرهه أشد مما أكرهه ما أنقذتك ولتركتك تموت في سجنك الذي هو سببه، المهم أنني وجدتك لتساعدني عليه وتنتقم لنفسك، وقتها ضحك الاثنان وقد اتقدت عيناهما ببريق من السرور والإصرار على هزيمة ذاك الخائن, وعاد العجوز ليسأله: كيف تعرفت على مكاني؟ أجابه: لقد طمعت أن يسامحني والد الفتاة التي أحب على أفعالي واستهتاري وعدم مسؤوليتي، وقد أعلنت توبتي واستعدادي للعمل بأي شيء يسد رمق العيش وتقدمت لخطبتها, والذي ادعى أنه صديقي جعل الخطوبة تؤجل بسبب ما ألّف علي من حجج واتهامات باطلة، وهنا قررت البحث عنك لتساعدني وتنتقم، فتنازعه عاملان مختلفان عامل الحب وعامل الطمع وارتعب رعباً شديداً وصمم أكثر على الانتقام. سأله العجوز: وهل تأكدت من حبها ذاك؟ أجاب: نعم ما زلت أذكر أول مرة رأيتها حيث أصابتني الدهشة بجمالها الذي خلب لبي بحيث تبعتها ممتثلاً وراءها وأنا لا أعلم أين أسير, لكن قل لي أيها الصديق ألم تتذمر من السجن المظلم؟ ألم تشعر بفقدان قوتك. قال ولماذا؟ فأنا أؤمن بأن ليس كل سجين مظلوم سيموت قهراً وراء قضبان السجن. أجابه: يا له من إيمان وطيد ورائع! والواقع ما من قوة بشرية تستطيع استبعاد رجل وسجنه في قفص سجناً حقيقياً, لأن الرجل الحر وإن قيد وغلت يداه ورجلاه بالسلاسل سيظل حراً، وكما يرغب كل سجين مظلوم متلهف للحرية في أن يطير ضمن قفص ستولد له أجنحة والقفص سيتسع بحيث يصبح عائماً يطير في آفاقه كل سجين مظلوم.. خيم الظلام وهجم البرد، وخزته عظامه فالتف بمعطفه, نزل مع صديقه يلتمسان الراحة، لمح الشاب هياكل الأشجار المحروقة التي أثارت فيه شجون العالم فأوجعه سوادها, احترقت وما تزال شامخة تنطق بأهوال الزمن, هياكلها بجذوعها وفروعها تشمخ إلى السماء وكأنها جوقة من النساء الأرامل تشدو مراثي الخصب, فكل الوجوه التي مر بها كئيبة ورمادية وكأنها بلا طفولة أو أحلام. عاد إلى ذهنه صديقه الخائن الذي سجن صاحبه من أجل المال وحرم آخر من محبوبته طمعاً بجمع المال من أبيها. سمع الخائن بوصول الشاب مع العجوز, فنشر إشاعة عن زواجه من الفتاة. ولما سمع الشاب الخبر صُدم ولم يخش من شيء بل خشي من نفسه ومن غرامه فكان يسير سير الهائم وهو يناجي نفسه, لقد احتمل بغرامها ما لم يحتمله قلب إنسان, فإن شفتيه رقتا لترديد اسمها في كل لحظة وفي كل نبضة من نبضات قلبه تنهيدة غرام, حاول العجوز نصحه لكن اشتياقه لها ناراً في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقاداً.
ثم وصل للفتاة خبر يقول أن الشاب تزوج وقد خدعت الخدعة نفسها وصدمت، يئس الشاب من حياته ولم يعد يرغب بالعيش, ذهب إلى بيت مهجور ونزل قبوه الممتلئ بالماء, ألقى نفسه في المياه وقد عزم عزماً أكيداً على الموت, وعندما غمرته المياه تخيل الفتاة وعاد إلى باله ذاك الخائن ثم فطن إلى أن ما سمعه قد يكون إشاعة لفقها كي يجعله يهجر البلدة، حينها أقسم على الانتقام, وتغلّب حب الحياة عليه فصعد من القبو وأمسك بقضبان النافذة التي تدخل منها المياه وقد اشتد رجاؤه حين شعر أن تلك القضبان الحديدية تضطرب بين يديه، فإنها كانت قديمة العهد خلخلتها المياه وتقادم الأيام وحين تمكن من النجاة ذهب إلى بيت الفتاة التي عزمت على الانتحار وتلاقيا في اللحظة الحاسمة، وقف الاثنان واجمين, وأحس كلاهما أن الدقائق التي مرت تعادل دهراً، وحينها طوى كل منهما ألم الماضي وطول الأيام وظهرت حقيقة الإشاعة وأحس الشاب بفرح تفتح كالزهرة في صدره اليائس، وحين علم الخائن أنه قد عُرفت حقيقة كذبه كاد يجن من غضبه ولم يتبق كلمة من قاموس الشتائم إلا ولفظها وهو يرغي ويزبد، والعاشقان عاشا بحب ورضى، وهو نال جزاء ما فعله من كذب وخيانة وطمع، وقد استحق نهايته.
تغريد الشيني