قصر الشوق (1)
د. نضال الصالح
وكلّ لقاء كانَ سامي يشرع ذراعيه على آخرهما فيصخبُ وجه فاطمة بلون الأرجوان. وكلّ لقاء كانت فاطمة تومئ له بعينيها أن يكتفي بمطلع الأغنية التي يعشقان معاً، أغنية الشيخ إمام، فيستسلم للإيماءة، ثمّ يغنّي بصوت لا يسمعه سواها: “أنا توب عن حبّك أنا؟”، فتكمل فاطمة بصوت لا يسمعه سواه: “دنا بترجّاك، الله يجازيك”، فيكمل هو: “يا شاغلني معاك، وشاغلني عليك”.
في غير لقاء حكى سامي المنياوي لفاطمة عن أبيه الذي أقام في الشام سنوات الوحدة بين مصر وسورية، وعن زواجه من أمّه، الشامية، التي استقرّت معه في “المنيا” بعد عودته إليها. وفي غير لقاء، وفي الإجازات السريعة لسامي من وحدته العسكرية في العريش، حكت فاطمة لسامي عن الهجرات التي كابدتها وأسرتها في غير مكان بعيداً عن مدينتها بصرى الشام، بعد أن امتدّ الحريق العربيّ إلى بلدها، حتى استقرّت، وأسرتها، في القاهرة. وما إنْ كان نهرُ الحكاية، الحكايات، يجفّ على شفتيها، وتفيض عيناها بالدمع، حتى كان سامي يُهرع إلى أوّل الأغنية التي تحبّ: “يا حلوّ صبّحْ”، ثمّ ما إن كان يبلغ: “يا عيني مال الجميل مشغول ومتحيّر؟”، حتى كان وردُ وجهها يفتّق عن سحره، فيعاجلها سامي مزهواً بما كانَ حافظ إبراهيم قال عن مصر: “أنا إنْ قدّر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفعُ الرأس بعدي”، فتعاجله فاطمة بقافيّة شوقي عن الشام: “وعزُّ الشرق أوّله دمشقُ”، ثمّ ما تكاد القافُ تغادر شفتيها، حتى تفترّ الغمّازة في خدها الأيسر عن بعض ياسمين في وجهها: “دا شوقي بتاعكم يا عمّ سامي”، فيصخب الدمّ في خديّ “العمّ”، في وجهه كله، فيزيد سُمرته الباذخة حنطة على حنطة.
وفي غير لقاء كانت فاطمة تحدّث سامي عن مدينتها كما يكون متصوّف بلغَ مقام المعرفة، ثمّ تعده، ما إنْ يندحر الظلام عن سورية، بأن تطوف به بصرى كلّها، بأن تمضي به من مسرح المدينة الروماني الكبير إلى سرير بنت الملك، فالقلعة، فباب الهوى، فدير الراهب بحيرة، فمعبد حوريات الماء، فالباب النبطيّ، ثمّ تعرج به إلى الجامع الفاطميّ، فجامع مبرك الناقة، فقصر الإمبراطور تراجان، ثمّ خان الدبس، فالحمّامات الرومانية، وما تكاد تبلغ سيرة الحمّامات، حتى تتسع عينا سامي عن ضحكة تفهم فاطمة معناها، فتسارع إلى القول وهي تعابث ضفائر الحروف: “يا وادّ”، ثمّ تلحقها بما يلي من مخمل الغواية، فيسارع سامي إلى التأكيد كما يفعل كلّ مرة: “والله بريء يا فندم”.
وفي غير لقاء كان سامي يحدّث فاطمة عن أبيه العاشق للشيخ إمام، ويستعيد ما كانت عينا أبيه تغصّان به من الدمع وهو يغنّي ما كانت حنجرة الشيخ تصدح به: “اللي خانوا العهد بينا، واستباحوا كلّ حاجة. واستهانوا بالعروبة، واستكانوا للخواجة. مستحيل حيكونوا منّا، نحنا حاجة وهمّا حاجة”…. (يتبع)