شروط عديدة تحكمها عملية تعلّم اللغات الجديدة.. إدماج مختلف الاستعمالات والتوظيفات.. ووسيلة للانفتاح
تنبع أهمية التحدث بلغات عديدة من إمكانية التواصل مع ثقافات مختلفة، واقتناص فرص كبيرة لتغيير مستقبلنا نحو الأفضل، فعندما يتقن الشخص لغات أخرى غير اللغة الأم يستطيع الانتقال إلى أي مكان بحثاً عن عمل، أو إتمام التحصيل العلمي لسهولة التأقلم والاندماج مع ثقافات جديدة، كما تزيد من نسبة الوعي والثقافة بين أفراد المجتمع لمواكبة العصر، وفهم ما يجري في العالم من ابتكارات وعلوم حديثة، وهنا نعتبر أن تعدد اللغات لدى أي شخص هي ميزة تمنح الكثير من فرص العمل، والسفر، وغير ذلك، وتعد وسيلة هامة للانفتاح على الحضارات، والبلدان، والقارات الأخرى، وهي أمر ضروري للعيش بطريقة طبيعية ضمن مجتمع يواكب التغيرات، ويعاصر الاكتشافات، لكن عملية تعلّم لغة جديدة أو أكثر ليست سهلة وبسيطة، وإنما هي عملية شبه معقدة، وبحسب العلماء، اللغة هي عبارة عن مجموعة منتظمة من الإشارات الاصطلاحية تتضمن تنظيمات أو روابط، إذ لا يحمل الطفل في تعلّمه اللغة قدرات لغوية بحتة، ولكن ما يحمله هو تدعيم وظيفة أكثر شمولية، وهي الوظيفة الرمزية، إلا أن اكتساب الطفل للأشكال اللغوية عن طريق التقليد البسيط لا يضمن أبداً بأنه سوف يتمكن من السيطرة على العمليات المرتبطة بها عن طريق التحليل الشكلي، فقد نجد الطفل متمكناً من بعض الأشكال اللغوية بطريقة مقبولة، إلا أنها طريقة سطحية، فقد لا يكون بالضرورة الجمع بين العمليات النحوية المنطقية التي وضعها النحو.
صعوبات
قد يكون تعدد اللغات حجر عثرة أمام الذين يتعلّمون لغة على حساب اللغة الأم التي تضعف مع تزايد عدد المعلومات، وغزارة لغة معينة، حيث لا يعود في استطاعة الذاكرة تخزين هذا الكم الهائل من المعطيات في أكثر من لغة، ما يؤدي إلى انحسار اللغة الأم من جهة أخرى، وهنا تشير الاختصاصية في النطق وتعلّم اللغة، الدكتورة سيلينا محمد، إلى أن تداخل اللغات مع بعضها قد يسبب حالات من الضياع، والصعوبة في التعبير وتركيب الجمل، ما يتسبب بتشويش الطفل، ولا يعود قادراً على التمييز بين اللغات، وبالتالي يضيع في محاولة التعبير والتكلم بطريقة سليمة بإحدى تلك اللغات، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن استعمال لغات عدة في جملة واحدة من شأنه أن يؤثر سلباً على النطق عند الطفل، لأن هذا المزج ضمن الجملة الواحدة يمكن أن يخفف من قدرته على اكتساب كلمات جديدة، لأنه يصعب عليه في هذه المرحلة أن يفصل بين الكلمات المسموعة في لغات عدة، وهذا ما يبطئ اكتساب المفردات، بحيث يكون مخزونه اللغوي موزعاً على تلك اللغات.
مرحلة التقليد
يتسع الرصيد الصوتي للطفل في المرحلة قبل اللغوية لأنماط صوتية مختلفة تتعدى حدودها الأصوات التي تحتويها اللغة الأم، وهنا تتابع محمد: يحدث في أحيان كثيرة أن يعجز الراشد عن تقليد بعض المقاطع الصوتية لهذا الطفل الذي ينمو الميل لديه لمحاكاة الأصوات اللغوية، وحتى غير اللغوية التي تنبعث من وسطه العائلي والمادي، وبالتالي فإن الأصوات التي لم يكن يخضع استعمالها في البداية إلى تسلسل خاص، أو قاعدة نطقية معينة، تصبح أكثر عرضة لتحكم الطفل، وصياغتها في قوالب مقاربة لتلك التي تصل مسامعه من طرف المتكلمين من حوله، ويغلب سلوك المحاكاة هذا على هذه المرحلة، وتضيف محمد: يحاول الطفل ترديد المقاطع الصوتية التي يأتي على سماعها، وكأنه بذلك يرسّخها في ذهنه، ذلك أن له ميلاً للاستجابة الصوتية، فالكلمة التي يرددها للمرة الأولى تعتبر حافزاً لترديدها لمرات متعاقبة، فيظهر تقليده لنفسه بإحداث سلسلة أصوات متكررة، كأن يضع الطفل في معظم بداية الكلمات التي يقلدها الأصوات نفسها التي كان يغلب عليه تكرارها في مرحلة المناغاة، أما في سن الثالثة فيقوم الطفل بتكرار وتقليد كل كلمة جديدة يسمعها، ويحرص على تكرار المفردات والعبارات ليؤلف من مقاطعها جملاً، لكنه لا ينتقل مباشرة من استعمال الكلمات إلى تركيب الجمل، بل إن ذلك يتم تدريجياً تبعاً لتطور مستوى الفهم لديه، كل هذه المراحل ضرورية حتى يستطيع الطفل أن يكتسب كل ما هو قاعدي للتوصل إلى التمتع برصيد لغوي يجعله في المستوى العادي والطبيعي الذي يصل إليه الفرد بعد مرحلة الطفولة.
الحوار في تعلّم اللغة
يتعلّم الطفل الحوار بإدماج مختلف الاستعمالات والتوظيفات اللغوية المتعددة، ويوضح دكتور علم الاجتماع محسن توفيق أن الفعل الاتصالي عملية معقدة في حد ذاته لا يتجلى في مجرد إنتاج الأصوات، بل هو نتاج مسار معرفي قوامه الأخذ بعين الاعتبار المرسل المتكلم، ووضعية الاتصال، وهذا يقودنا إلى إبراز الدور الأساسي للحوار في اكتساب ونمو اللغة عند الطفل، وحتى فيما يخص الحوار الذاتي الداخلي، فاللغة ناتجة عن أفعال انعكاسية مسجلة في المخ، حيث المدخلات توصل المعلومات إلى المخ عن المستقبلات الداخلية والمستقبلات الحسية، أما المخرجات فتسمح بمرور الأوامر الآتية من المخ عبر الطريق الحركي.
طبيعة الفوارق
ترتبط عملية تعلّم اللغة بشروط فيزيولوجية، ونفسية، واجتماعية، وهي أكثر تعقيداً مما يعتقد البعض، لذلك هناك اختلاف كبير بين متلق وآخر، ويرى توفيق أنه من الطبيعي جداً أن تكون هناك فوارق في القدرات المتعلقة بتعلّم اللغات من طفل لآخر نظراً للفوارق المختلفة التي ذكرت، وهي فوارق تطال الكبار أيضاً، لذلك تعتبر القدرة على تعدد اللغات موهبة استثنائية يملكها الفرد، ولكن تساعده على ذلك بيئته التي يعيش فيها، ومحيطه الذي يسمح بتنمية هذه القدرات، ويمكن القول إن أساليب تعليم اللغات المختلفة بات أكثر سهولة، حيث يتم الاعتماد على برامج محادثة تمكن أي شخص يرغب في تعلّم لغة ما، لكن هذا لا ينطبق على الصغار، حيث يجب أن يخضعوا لبيئة تتكامل فيها جميع الشروط السمعية، والبصرية، والحوارية.
ميادة حسن