الإسلام السياسي ينمو مجدداً في أوروبا
علي اليوسف
يعود الإسلام السياسي في أوروبا إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية عندما نشأت علاقات بين ألمانيا بقيادة “هتلر” والتيار الديني المناهض للاستعمار البريطاني. وكجزء من استراتيجية مواجهة دول الحلفاء، لجأ “هتلر” إلى استخدام قوى الإسلام السياسي لتتلاقى مخططات ألمانيا ورغبات تلك التيارات بالتمدد خارج حدودهم الوطنية، ونتيجة لتوافق في الرؤى شهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية حركة واضحة للإسلام السياسي الذي لعب دوراً في تجاوز الحدود الدينية إلى السياسية. وفي أعقاب ثورة تموز 1952 في مصر، استغلت الحركات الدينية الحالة العدائية بين جمال عبد الناصر والقوى الغربية ما مكنها من الانتشار في الأوساط الغربية، فتأسست أولى المؤسسات تحت مسمى “الجمعية الإسلامية في ألمانيا” (IGD).
يتجذر حضور الأصوات الممثلة للإسلام السياسي في أوروبا منذ سنوات الحرب العالمية الأولى، وتعزز ذلك الحضور بعد انتقال شباب البلقان والأتراك في إطار عمليات إعادة الإعمار التي شهدتها القارة الأوروبية خلال سنوات ما بعد الحرب تلاها هجرة أعداد كبيرة من الشرق الأوسط.
وخلال مرحلة الستينيات، ظهر الجيل الثاني من المهاجرين للداخل الأوروبي هرباً من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلدانهم، لتتحول أوروبا خلال تلك المرحلة من وطن مؤقت لهم إلى وطن استقرار، وهنا تغيرت المفاهيم المسيطرة عليهم بالانتقال لمفهوم الشعور بالهوية الأوروبية، والانتقال لمفهوم سياسي يعبر عنهم كجزء من المجتمع الأوروبي لينتج في خضمها بعض الواجبات والحقوق السياسية لهم. وخلال حقبة الثمانينيات تم تأسيس وضع سياسي للحركات الإسلامية يهدف إلى توطيد وجودها في أوروبا، وتعميق العلاقة مع المؤسسات الأوروبية، وتكللت هذه المرحلة بإنشاء “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا”، عام 1989، الذي يضم ما يقارب 1000 جمعية ومركز إسلامي، وانبثق عن الاتحاد مؤسسات هامة، مثل: “الاتحاد الأوروبي للمرأة المسلمة”، و”منتدى الشباب الأوروبي”.
اتسم الخطاب العام لقوى الإسلام السياسي في أوروبا بازدواجية ملحوظة بين الشكل والمضمون، بين رؤية فكرية ومفاهيم تتنافى بالكلية مع الديمقراطية التي تنطلق من العلمانية، والعمل على توفير غطاء سياسي للعنف والإرهاب، وكذلك إصدار البيانات الصحفية المرحبة بعمليات الإرهاب في أصقاع العالم وذلك رغبةً في الحفاظ على شبكة المؤسسات التابعة لها منذ فترة الخمسينيات التي تنامت بشكل واضح في كافة المدن الأوروبية حتى بلغ عدد المراكز المنتشرة في ألمانيا وحدها ما يزيد على 30 مركزاً ، وهو ما مكنها من الحصول على تمويلات ضخمة من جميع أنحاء العالم.
لم يقتصر تيار الإسلام السياسي في أوروبا على فئة محددة، إذ توازى ذلك الحضور في إطار تنسيقي مع التيار السلفي بالقارة الأوروبية. بجانب ذلك كان ينتشر في أوروبا “تيار صوفي” واسع برز حضوره في المشهد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما مع انطلاق ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وصعود “الاتجاه الصوفي” كبديل لفشل التيارات الإسلامية الأخرى وتحول عدد منهم لتنظيمات إرهابية، حيث حمل التيار الصوفي زمام المبادرة وانتشر داخل القارة الأوروبية وخاصةً في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا.
تعددت المصادر التي تغذي النزعة المتطرفة داخل أوروبا، حيث يقف في مقدمتها انتشار الخطاب العنيف لتلك المكونات الموجودة هناك، وبعض المراكز التي مثلت منبراً لتنمية العداء لأوروبا ومواطنيها، وبجانب ذلك يأتي فشل المجتمع والسياسات الأوروبية في دمجهم، وشعور قطاع منهم بالتمييز العنصري، ما نتج عنه بروز دور التنظيمات الإرهابية مثل “تنظيم القاعدة” في أعقاب الحرب العالمية على الإرهاب.
وجاءت حملات تجنيد الشباب الأوروبي داخل تنظيمات متطرفة وهو ما مثل انطلاقة للتنظيمات الإرهابية، ولا سيما مع ظهور تنظيم “القاعدة” في أفغانستان منذ أواخر السبعينيات وطوال فترة الثمانينيات، بدعوى مقاومة الاتحاد السوفيتي السابق، وهو نفسه الذي تحول فيما بعد لمقاومة ما سمي بـ”العدو البعيد”، أي المجتمع الغربي، وعليها نفذت تفجيرات 11 أيلول في أميركا، وما تلاها من أحداث في مجمل القارة الأوروبية.
وعقب أحداث ما عرف بـ”الربيع العربي”، وظهور تنظيم “داعش”، تجمعت عدة عوامل لتنتج مرحلة جديدة أكثر تطوراً من التطرف والتوحش بعد سيطر تنظيم “داعش” على مساحات جغرافية شاسعة من العراق وسورية وصلت لأكثر من 150 ألف كم، ومن ثم ظهر نوع أكثر تطوراً في التطرف والوحشية، نوع قادر على استخدام تكنولوجيا الاتصال وشبكات الانترنت للترويج لخلافته المزعومة، ونشر أيديولوجيته المتطرفة لتصل لأكبر عدد من الأفراد حول العالم.
وهنا حول التنظيم دفته نحو أوروبا لتنفيذ عملياته الإرهابية، وهذا ما استدعى تشديد السلطات الأمنية إجراءاتها وقيودها، حيث استحدث التنظيم آليات غير تقليدية لتنفيذ عملياته داخل أوروبا، وهي آلية “الذئاب المنفردة” التي تقوم بتوظيف أفراد من داخل الدولة نفسها بهدف تنفيذ العملية، وافتقادها للصلات التنظيمية مع التنظيم الأم، وعشوائية التنفيذ دون أي إخطار مسبق بتنفيذ التفجير.
ومن أبرز العمليات التي قام بها تنظيم “داعش” في أوروبا، والتي اعتمدت غالبيتها على استراتيجية “الذئاب المنفردة”، راح ضحيتها قرابة الـ300 شخص، وأكثر من 1400 جريح منذ 2014 إذ شهدت ألمانيا أكثر من 3 تفجيرات في برلين، ووانسباخ، وفورتسبورج. وفي بلجيكا وقع هجومان أكثر شراسة في العاصمة بروكسل. ونالت فرنسا الجانب الأوفر من التفجيرات الإرهابية بداية من صحيفة “شارل أبيدو” إلى هجوم “نيس” في تموز 2016.
ومع تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا، اشتدت وتيرة ما عرف بـ”الإسلاموفوبيا” في القارة الأوروبية، وهو ما هدد بالوحدة الأوروبية التي اتخذت خطوات تصاعدية نحو الاندماج في كيان سياسي منذ الإعلان عن إنشاء المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في عام 1951. إلا أن التفجيرات الإرهابية التي حدثت على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، وأزمة اللاجئين، بالإضافة إلى أزمة اليورو، هددت بالوحدة الاندماجية الأوروبية، وبدأ الحديث عن تفككه، وهو ما وصل إلى الواقع العملي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016.
لقد مثلت أحداث 11 أيلول 2001 نقطة محورية في الإدراك الأوروبي لضرورة الوقوف في وجه الموجة المتنامية للإرهاب، فسارع الاتحاد الأوروبي بوضع “استراتيجية مشتركة لمكافحة الإرهاب”، لكنه ترك الباب مفتوحاً لإدخال تشريعات محلية تراعي خصوصية كل بلد أوروبي ما أدى إلى اختلاف آليات التنفيذ والتشريعات الموضوعة تبعاً لكل دولة.
ولكن سياسات التشدد الأوروبي تضاعفت مع تزايد العمليات الإرهابية، وأصبحت أكثر صرامة، فقد أقرت لندن عقوبة تصل إلى سبع سنوات لأي مواطن “يعظم” من الأعمال الإرهابية، وأدخلت تلك التصعيدات الاتحاد الأوروبي في مأزق من قضايا حقوق الإنسان من ناحية التعدي على خصوصية المواطن الأوروبي التي يكفلها المجتمع الأوروبي، ومن ناحية أخرى وضع كافة المهاجرين واللاجئين تحت الشبهة. ثم جاءت الاستراتيجية البريطانية بعنوان “كونتست 3” لتضع في أولى قائمتها الحركات الإرهابية في مقدمة الأخطار التي تواجهها المملكة المتحدة في المرحلة الراهنة، إذ لا تزال الراديكالية منبع التهديدات المتطرفة، في الوقت ذاته ما زالت تسعى تلك التنظيمات لاستقطاب الأفراد، في ظل ما تؤكده المؤشرات الرسمية من انضمام قرابة 700 شخص بريطاني إلى صفوف “داعش”، ولم يعد منهم إلا 300، وتكرار الحديث عن مخاطر عودة المقاتلين إلى بلدانهم الأوروبية عامة وبريطانيا خاصة.
في الحقيقة، تتخوف الدول الأوروبية من تزايد أعداد الإرهابيين فيها، وبروز منظمات “الإسلام السياسي” لديها، ولهذا شرعت عدد منها باتخاذ تدابير أكثر صرامة، واتخاذ تدابير أكثر عدوانية تجاه ما تعتبره مغايراً لثقافتها ومؤسساتها الحضارية.
وهو ما يفرض على الحكومات الأوروبية، القضاء على الإرهاب، ولا سيما بعد تنامي موجاته الأخيرة، وهذه الإجراءات مرهونة بجدية الدول الأوروبية بإعادة النظر في سياساتها تجاه القضايا الداخلية والخارجية، فضلاً عن ضرورة مراجعة متوازية للسياسات الأوروبية في مناطق الأزمات بالعالم، والسعي الجاد نحو مواجهة متزنة وحكيمة لظاهرة “الإسلاموفوبيا”.