جناية حب
سلوى عباس
كانت في الثلاثين من عمرها عندما أدركت الحب الحقيقي وعاشته حكاية تشبه في تفاصيلها قصص الحب التاريخية من حيث صدق الحالة وشغف الروح، واستمر حالهما سنوات طويلة، لكن يبدو كما يقول المثل: “دوام الحال من المحال” وهذه السعادة التي ينعمان بها كانت محط غيظ من الآخرين، والمفاجأة أن المتطوعين لاغتيال هذه السعادة كثر، فراحوا يهندسون خراب الحالة، ويبثون سمومهم لقتلها، وللأسف أنهم كانوا جميعهم يحسبون من الأصدقاء، وكان لهم ما أرادوا، أصبح هؤلاء الحبيبان أسرى النزق والزعل دائماً، وكم فاجأها أنهم استطاعوا زرع الشقاق بينهما، فبعد أن كانت هي من تهدهد روحه من أوجاعها.. وتمنح الضوء لصباحاته.. وتحمل أحلامه، وتمنح الحياة بركتها فتنشر في قلبه ودادها، وتلملم أجزاءه وقت انفجاراته.. ومن يلتجئ إليها في ملماته وانكساراته.. كان يشتاقها فراشة النور التي تهيم حول روحه.. توقظ إحساسه وكل عواطفه، وتشعله شمعة وجد لا تنطفئ، وشلال حنان راقص الدفقات لا ينضب.. لأنه -كما كان يدعي- ينبع من أعالي قلبها المتسامح، ومن ذرا حبها الغامر الذي كان يطلب منها أن تبقيه متدفقاً هادراً، وأن تدعه يجتاحه فيغرق حيث لا شاطئ إلاّها.. ولا سماء إلا سماءها.. ولا أفق إلا عينيها.
هي عاشت هذا الحب حقيقة مطلقة وتملّك كيانها حتى أصبح الإكسير الذي يغذي روحها، ويجعلها تحلق في سماء الأحلام الوردية.. وحينها لم يكن لهذا الحب من غاية عندها إلاّه، فكان الأمل والمرتجى، لم تختره لحاجتها لرجل، بل اختارته لحاجتها لروح تسبغ عليها قداستها وتحييها من مواتها فعشقته وأحبته حتى الموت، لكن على ما يبدو أن الحب أعمى، إذ فجأة وبدون سابق إنذار أخذ سور من الأشواك والطين ينمو بينهما.. زمن من غبار يرش لونه على القلب، ومساءات من وجع لا ينتهي.. ممالك النوم تهجر عروشها، ورسم ظليل من ألوان الروح يسكب على الأنحاء استطالات السهر ويخربش على الصور البهية خطوطا من رماد الحزن.
أخذت أحلامها تبترد شيئاً فشيئاً، والياسمين الذي أزهر لأجلهما أخذ يذبل، والوقت هو الوحيد الذي بقي حولها متنامياً قاسياً كنبتة فولاذية، يدق أجراس انقضاء الحلم وتوهج الحب، مضت كل احتمالات تحقق الرؤيا، وانهمرت غيمة الليل في تلك الظهيرة، وتلوت الدروب أمامها تائهة في كل الاتجاهات هاربة إلى متاهة الانتظار الذي خبا.. ناجت ذاتها أنه قد يعود في المساء.. في عتمة الليل أو في صباح قادم.. أو مساء.. انفلت الحلم الذي حضنته طويلاً منداحاً في كل الأرجاء.. وتبعثر حنينها إليه على رصيف بارد راحت تلملمه وتجمعه، عسى أن تحدث معجزة تعيده إليها فينفخ فيه من روحه فيعاود ارتجافه ورعشاته الدافئة، لكنه أصر على الغياب وكان قراره بالابتعاد ليبني حياته بعيداً عنها مع إنسانة أخرى ربما تشبهه وربما تختلف عنه كثيراً، وذهبت وعوده في الحب أدراج الرياح وأطلق حكم الإعدام على إنسانة ظنت أنه أحبها كما أحبته، والسبب جناية حب سابقة، فكم هي مفارقة عجيبة ومؤلمة أن تبدأ الحياة بهالة من الألق لتخبو فجأة ويتبدل كل شيء إلى سراب.. هي البدايات جميلة دائماً لكنها لا تستمر.. ويصبح من نحبهم عابرون بعد أن كانوا ملاذ أرواحنا.