تونس في مواجهة التحالفات المفتوحة “النداء” يتخبط والنهضة تلعب على الحبال كافة
تونس- البعث- محمد بوعود:
يتواصل الصراع السياسي على أشده في أعلى سدة الحكم في تونس، والذي انطلق منذ آذار الماضي، حين أعلم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي رئيس حكومته يوسف الشاهد أنه لم يعد يرغب في بقائه على رأس الفريق الوزاري، وأنه سيغيّره بشخصية أخرى لم يفصح عنها، فما كان من رئيس الحكومة إلا أن استعصى، ورفض الخروج من قصر القصبة، مستقوياً ساعتها بحركة النهضة، التي وقفت إلى جانبه ورفضت الإطاحة به، وبقيت تناور، وتطيل أمد المفاوضات السياسية، وتمدّد في أجال اجتماعات وثيقة قرطاج الثانية إلى أن وصلت إلى تعليقها، وبالتالي قسّمت المشهد نصفين، واستفادت هي، بأن جعلت حكومة الشاهد رهينة لدعمها فقط، وجعلت رئيسها مُكبّلاً بأغلبية برلمانية تمتلكها هي، وتستطيع وحدها فقط أن تمرر مشاريع القوانين أو تُسقطها.
وضع الارتهان لحركة النهضة جعل رئيس الحكومة يتحرّك في مجال ضيّق من التحالفات السياسية، خصوصاً وأن كثيراً من الأحزاب والكتل السياسية اختارت في البدء الاصطفاف إلى جانب رئيس الجمهورية، وحدّت من مجال المناورة لديه، لكنه أصبح بالفعل رهيناً لقرارات الحركة الإسلاموية التي استطاعت خلال فترة الارتباك هذه أن تسمي المئات من عناصرها وأنصارها في المفاصل الرئيسية للإدارة والوظيفة العمومية، وحتى في أماكن حساسة لناحية صنع القرار أو الاطلاع على المعلومة، واستطاعت أن تبعد من طريقها كل الوزراء الذين لا يتفقون مع مخططاتها في الوصول إلى الحكم، مثل وزير الداخلية السابق ووزير الطاقة، كما استطاعت أن تجعل من المشهد السياسي يدور حولها، وجعلت من نفسها قلب الرحى للعملية السياسية كلها، فتحوّلت حتى شعارات الأحزاب من برامج وطموحات تنموية إلى واحدة من اثنين: إما مع النهضة أو ضدّها، وهو ما خلق مناخاً سياسياً غير سليم، قائماً في داخله على رغبة جامحة لدى الجميع في الفوز بقطعة من كعكعة السلطة، أو جزء من الغنيمة، وهو سباق تتقنه الحركة الإسلاموية جيداً، واستطاعت أن تستثمره كأحسن ما يكون.
بل إنها استطاعت أن تقسّم حزب رئيس الجمهورية، الحزب الحاكم الذي رشّح الشاهد لرئاسة الحكومة إلى شظايا، وأصبح يعيش وضع انشقاقات وانسلاخات شبه يومية، استغلتها هي في فرض نفسها على يوسف الشاهد، كداعم وحيد لحكومته، واستغلها هو لبداية مشروعه السياسي الجديد، إنشاء حزب وسطي حداثي، يجمع فيه المنشقين عن حزبه الأم، نداء تونس، والخارجين من أحزابهم الوسطية واليسارية، كحزب أفاق تونس وحزب المسار وحزب مشروع تونس والحزب الجمهوري وغيرهم، ليكوّن من خلالهم حزباً واسعاً وكبيراً، يمكّنه من خوض استحقاقات 2019 بأريحية، خاصة وأن منافسته ستكون مقتصرة على حركة النهضة التي يعرف جيداً حجمها الحقيقي وقاعدتها الجماهيرية الفعلية، رغم أنها الآن مسيطرة على حكومته وعلى قراراته بحكم ضعف الأطراف الأخرى.
بالمقابل بدا رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، بعد الاستعصاء الذي نفّذه رئيس الحكومة الذي كلّفه، يوسف الشاهد، الذي رفض المغادرة والاستقالة، ورفض أيضاً الذهاب إلى مجلس نواب الشعب لتجديد الثقة في حكومته، وتحدّاه في عزل وزير الداخلية المقرّب منه، وتحدّاه أيضاً في تعيين وزير خلفه، موال للشاهد، وعرض تزكيته على البرلمان، واستطاع أن يمرّره بأغلبية مريحة جدّاً.
هذه الوضعية جعلت الرئيس شبه عاجز أمام وضع يقيّد فيه الدستور صلاحياته، ولا يمكنه من مجالات مناورة كثيرة، بل لا يترك له عملياً في يديه إلا قيادة الجيش ونصف الدبلوماسية ونصف الأمن، أي تقريباً موقعاً شرفياً لا يستطيع من خلاله التأثير في مجرى العملية السياسية، إلا بقدرته على المناورة من بعيد، وهو ما جرّبه ونجح فيه، حين تجاوز الدستور، وجمع عدداً من الأحزاب والمنظمات الجماهيرية في صيف 2016، تحت شعار وثيقة قرطاج، وأزاح بهم حكومة الحبيب الصيد –الذي عاد الآن وعيّنه مستشاراً سياسياً له – وأراد أن يعيد نفس الكرة في صيف هذه السنة، لكن حركة النهضة أصرّت على عدم التخلي عن حكومة الشاهد، حتى وإن وصل الأمر إلى القطيعة بينها وبين رئيس الجمهورية، حليفها السابق والضامن فيها لدى العالم، والذي أتى بها إلى الحكم، وأشركها في التشكيلة الوزارية وأعطاها مكانة لم تكن تحلم بها حين انهزمت أمام حزبه نداء تونس في الانتخابات التشريعية والرئاسية في شتاء 2014.
طمع حركة النهضة في الانفراد بالسلطة، نما عندها، وتجذّر حين تأكدت من خلو الساحة من منافس قوي، بعد العواصف التي ضربت نداء تونس، وبعد تمرّد رئيس الحكومة على رئيس الجمهورية، وبعد أن ضعف اتحاد الشغل وانكفأ على معاركه المطلبية اليومية، وهو طمع جعلها ترى السلطة قريبة المنال، وترى أن خطوات فقط تفصلها عن العودة إلى الحكم الذي خسرته في ربيع 2013 باعتصامات شعبية وتمرّد عام، وحوار وطني أخرجها مرغمة من القصبة، التي تسعى الآن جاهدة للوصول إليه، وترى الدرب مفروشاً بالبساط أمامها.
لكن ما لا تعلمه الحركة، أو تعلمه وتغضّ النظر عنه، هو أن هذا البساط قد يُسحب من تحت أقدامها في أية لحظة، وأن رئيس الحكومة الذي تعتقد الآن أنه رهين كتلتها النيابية، ليس سهلاً، وليس لقمة سائغة لتبتلعه في طريقها إلى الحكم.
فيوسف الشاهد، بدأ يقطع خطواته بتؤدة، لكن بثبات نحو ترسيخ نفسه كزعيم للمرحلة الحالية والقادمة، وبدأ يستجمع عناصر القوة، وأثبت في عديد المرات أنه ليس عصا من قشّ يسهل ليّها أو تطويعها. فقد رفض دعوة رئيس الجمهورية في مناسبتين، واحدة رسمية وواحدة تلفزية، حين طلب منه الاستقالة أو الذهاب إلى مجلس نواب الشعب، وطلب تجديد الثقة لحكومته، ورفض دعوة المدير التنفيذي لحزبه نداء تونس حين طلب منه الخروج من السلطة والاستقالة وتوضيح موقفه من الحزب، ورفض التدخلات التي دافعت عن وزير الداخلية القوي لطفي براهم، وعزله، ورفض دعوة حركة النهضة له بالالتزام علناً بعدم الترشّح للاستحقاقات القادمة في 2019.
وهي مواقف تثبت أن الرجل ليس سهلاً بالمرّة، وأنه يعرف ما يفعله، حيث استطاع أن يحوّز الآن، وبفعل حسن استغلاله والفريق المصاحب له، للانشقاقات والانسلاخات في الأحزاب السياسية، على ثاني أهم كتلة برلمانية، تكوّنت حديثاً وسريعاً، وسمت نفسها “كتلة الائتلاف الوطني”، ومهمتها دعم رئيس الحكومة، والوقوف معه في معركته ضد رئيس الدولة ونجله، وهي كتلة تحتاج الآن إلى حركة النهضة من أجل النصاب القانوني لتمرير مشاريع القوانين الصادرة عن الحكومة وعلى رأسها قانون المالية 2019، لكنها فيما بعد لا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن تصل إليه في علاقتها مع النهضة، خصوصاً حين تتأكّد أن الحركة ماضية إلى الاستيلاء على السلطة التنفيذية، كلّفها ذلك ما كلّفها.
وهذا الاحتمال هو الذي لم تحسب له حركة النهضة حساباً، خصوصاً وأنها مازالت تعدّل مواقفها على أن رئيس الحكومة ضعيف، ومعزول في القصبة، ومقصوصة أجنحته، ومقطعة أوصاله مع حزبه ومع رئيس الجمهورية، في حين أن الرجل يحسب حساباته لنفسه، ولحزبه الذي يسعى ليلاً نهاراً الآن لبناء هياكله، ورسم ملامحه النهائية قبل الإعلان عنه قريباً، في موعد قد لا يتجاوز كانون الثاني القادم.
فهل يستطيع يوسف الشاهد أن يضع حدّاً لأطماع النهضة في العودة إلى السلطة، أم أن تونس مازالت مُقدمة على أوضاع تعيد تجربة ما بعد “الثورة” بقليل؟.