الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الفنانون..!

حسن حميد

أبداً، ليس صحيحاً ما يُرمى به أهل الفن من قذف كلامي فيه من السطحية والسذاجة وقلة المعرفة ما فيه، وفيه من عدم وعي حال الفنان المبدعة ما فيه، وجهل السلالم التي يصعدها وهو يفكر في عمله الفني، ومن ثم وهو يصنعه ما فيه أيضاً، وأي بهجة ساحرة تلفّه وقد غدا عمله بين يديه مرآةً، ومدينةً، وغابةً، وحالاً من الجمال البكر، والرهافة التي تقطر ندى! لم يكن (بجماليون) مجنوناً حين نحت تمثاله الأنثوي (غالاتيا)، ولم يكن بعيداً عن أحلامه الفنية حين راح يحسّن صورة التمثال يومياً ليغدو، كما اقتنع، كائناً من لحم ودم ومشاعر وأشواق محوّمات، مع أنه كان مقتنعاً بجمالية الفرد وعزلته، وعدم الخوض في مغامرة عشق المرأة أيّاً كانت، بل كان نفوراً من المرأة، لكنه حين أقدم ليصنع أنثاه من الرخام الصلد، منحها كل ما ترسَّب في قاع روحه من حب للمرأة، وعشق لصورتها إيماناً بدورها في الحياة الذي يشبه دور الهواء! ولأنه تولّه بتمثاله وعاش كل تفصيل فيه، فرح به، وضحك له، وبكى أمامه الليالي الطوال، فأشفقت عليه آلهة الأولمب فجعلت (غالاتيا) التمثال الرخامي.. امرأة من لحم ودم ومشاعر وأشواق ورهافة ومؤانسة! إنها مكافأة الروح العاشقة للفن، المدركة لتأثيره في النفوس والحياة والمعاني.

(فان غوخ) الهولندي ظنه الناس، أبسطهم في الرتب الاجتماعية والثقافة، وأعلاهم وأكثرهم معرفة بها، مجنوناً؛ صاحب المطعم الذي يرتاده (غوخ) كان على قناعة أنه مجنون حقاً، لأنه حين انتهى من طعامه، ولم يكن لديه نقود، رسم في قاع الصحن (الذي أفرغ ما فيه من طعام في معدته) القطعة النقدية الورقية المطلوبة منه ثمناً للطعام، وحين أراد رفعها من الصحن، وجد  أنها قطعة نقدية مرسومة، فضحك إلى حدّ البكاء بعد أن خرج (غوخ).

(بيكاسو)، تروي إحدى السيدات اللواتي تعرفن عليه، وكانت من أشد المعجبات بلوحاته، أنه أعطاها لوحتين من خيرة أعماله لأنها، ومنذ اللحظة الأولى، دنت منه وقبّلته قبلتين. كل قبلة بلوحة أخذت من (بيكاسو) الأيام بلياليها كيما يصوغها تحفةً. من كانوا في مرسمه، همسوا فيما بينهم إنه مجنون! والحق إنه ليس كذلك، لأن لحظة التقاء المشاعر تساوي عنده التقاء نهر بنهر، أو نهر بمدينة، أو نهر بعروس ودّت طواعية اكتشاف أعماقه!

أقول هذا السطر الطويل لأنني عرفت فنانين منهم من رحل، بعد شوط فني رافل بالجمال الذي لا يدانى، ومنهم من يعيش بيننا، وهم لا يمتلكون من حطام الدنيا سوى نبل المشاعر والعاطفة، هم مجانين إذا ما سلّمنا بجنون (غوخ) و(بيكاسو)، وما أجملها من تهمة أو قذفة!

مصطفى الحلاج، كان من هؤلاء، فقد أعطاني، وأنا أخرج من بيته في منتصف الليل لوحة من أشهر لوحاته، قلت له: دعها للنهار فناننا الحبيب، قال: ليس لديَّ مصباح جيب كيما تنير الدرج في الخارج، خذها لعلها تنير الدرج. فبكيت، وبكى.

فاتح المدرس، وعند الباب، وأنا أمطره بالشكر على لطفه ودماثته وتواضعه، وبعد أن حدثته عن قصص (أعواد النعنع) جريدته الفريدة، قال: انظر، هذه أربع لوحات، اختر واحدة، قلت: يا عم فاتح، ليس لي بيت فيه جدار يقوى على حمل لوحة من لوحاتك، وهربت، وصوته يطردني: اللوحة، اللوحة!

اليوم بيننا فنانون مجانين إبداعياً، سحرة ألوان، أرواحهم طيور، وأصابعهم طرية طراوة الماء، وأعماقهم أعماق الأدغال، منهم عبد المعطي أبو زيد، وعلي الكفري، وجليدان الجاسم، وإبراهيم مؤمنة، ومحمد الركوعي، أعطوني، مثلما أعطوا غيري، ذوب أرواحهم، ورهجة مواهبهم.. ألواناً وتشكيلات.. تلك اللوحات لولا الحياء لمشت بين الناس حضوراً، وجمالاً، ومعنى!

Hasanhamid55@yahoo.com