ثقافةصحيفة البعث

عزرا باوند.. الرسّام بالكلمات حقا

 

“أطياف هذه الوجوه في الزحام/ بَتَلاتٌ على غصنٍ رطب أسود”، أقصر قصيدة في الأدب الإنكليزي، عندما كتبها الشاعر الأمريكي المولد “عزرا باوند”1885-1972، الذي تحل ذكرى مولده الثالثة والثلاثين بعد المئة اليوم؛ ولا زال يشغل بال الشعراء المفكرين الباحثين في شعره،ويحكى أن القصيدة السابقة ما هي إلا دليل على تولهه بشعر الهايكو، الذي درسه طويلا، إلى جانب العديد من المؤثرات السمعية والبصرية والشكلية وحتى الحسية بأنواعها، والتي كانت بمثابة مصادر إلهام غزيرة، لفلسفته الشعرية، والتي أصبحت مذهبا قائما بذاته فيما بعد.

“باوند”هو من قام بتغير شكل وطبيعة القصيدة الشعرية، التي كانت مغرمة بالشعر الذي كان سائدا في العصر “الأليزابيثي” بأنواعه الثلاثة: (القصيدة الغنائية، السوناتا،  الشعر القصصي)، مكرسا والعديد من الرفاق الذين انخرطوا في فلسفته الجديدة بما يخص القصيدة، جهده للعمل على ما عرف بـ “التصويرية” في الشعر، والتي هي على العكس تماما من الشعر الغربي، الذي كان غارقا بالإسهاب، وغيرها من المواصفات التي لم ترق له، فمن يمعن قراءته سيجد أن مفهوم الصورة كان عماداً أساسياً في فلسفته، فالصورة التي استخدمها “باوند” مختلفة عن التشبيه أو المجاز المستخدمين بكثرة في الشعر، ومن المعروف أن الصورة الشعرية استُخدمت أيضاً كمحسّن بديعي قبل حركة باوند التصويرية، بزمن بعيد، فسواء كانت الصورة بصرية أو سمعية أو حركية أو غيرها، فهي شائعة في الأدب لحث القارئ على تخيّل الأشكال والألوان والأصوات والحركات من خلال اللغة، ورغم ذلك أحدثت الحركة التصويرية ثورةً في الشعر الغربي، حتى صار باوند يلقّب بأبي الشعر الحداثي.

“الصانع الأمهر” كما سماه “ت. أس إليوت” لم تعجبه القصائد التي ذهبت نحو التصوير والمبالغة في الألفاظ وفي التشابيه والعلائق الشعرية، لذا عمل بجهد على تطوير مفهوم الصورة الشعرية، قبل أن يؤسس حركته التصويرية، التي تأثرت بمصادر شتى، فالشعر عند “باوند”، لا يمكن فصله أو عزله بأي شكل، عن الفنون والعلوم والثقافات الأخرى، فهو على علاقة قوية بكل من النحت والرسم والموسيقا، كما أنه تأثر أيضا بالشعر الإغريقي القديم والرمزية الفرنسية والهايكو الياباني والرموز أو الحروف الصينية، ليستلهم من الهايكو والشعر الإغريقي،الاقتصاد في اللغة وتكثيف المعنى، وتلك من أهم المبادئ التي دعت إليها التصويرية، فكانت تجربته محط اهتمام النقاد وما زالت الأسئلة حول علامات الترقيم، وتساوي السطرين الشعريين اللذين يبدوان وكأنهما معادلة رياضية، والاقتصاد بالكلمات، واستخدام الأسماء دون الأفعال في القصيدة، محور المشتغلين على تلك القصيدة التي عزز “عزرا” من وجودها وجعلها تقف على سنديان المعنى، بأقدام صلبة، وفكر راسخ.

من بين القصص التي كان لها أيضا كبير الأثر في تغيير وجهة تفكيره في الشعر، هو ما حدث معه حين هبط من المترو في باريس، ليشاهد وجوهاً مختلفة، وجمالا خاطفا،لم يجد لغةً تصف روعة المشهد. حينها لم يكن “باوند”، يبحث عن كلمات بل عن معادلة أو نمط يوازي اللوحة البديعة. وتمنى شاعرنا أن يكون رساما أو موسيقيا أو نحاتا،لينقل ذلك المشهد البديع للمتلقي، عن طريق الموسيقا أو النحت والرسم، ولكن الشاعر الأصيل الذي فيه، استغرب عدم استطاعة اللغة فعل ذلك، وتساءل: لم لا يكون للشعر وقع كوقع الفنون تلك! وعندها قرر أن يصور المشهد بصورة واحدة مركّبة، وكتب في البداية قصيدةً من ثلاثين سطراً، ثمّ أخذ يحذف السطور الزائدة، حتى كان الشكل الأخير للقصيدة بعد سنة، قصيدة تشبه الهايكو، مؤلفة من سطرين فقط، وهذا ما صار يُعرف بفن الحذف الذي صار “باوند” بارعا فيه، والذي مارسه أيضا على قصيدة “الأرض اليباب”، حاذفا العديد من أبياتها.

وربما لا تفرغ أي قصيدة اليوم من خصائص “قصيدة المترو”، وذلك لأن باوند استطاع أن يختزل الكثير من مبادئ التصويرية التي شرحها في كتبه النقدية ورسائله، ومن هذه المبادئ: (رسم الشيء كما أراه،الجمال، التحرر من التلقين المباشر)، ومن القصائد التي تبين وتوضح مفهوم التصويرية كما ابتكره “باوند”، قصيدة “نيسان” التي تقول:

(راوَدتني ثلاثُ أرواح/ وسَحَبتني/حيثُ أغصانُ الزيتون/تمتدُّ عاريةً على الأرض/أشلاءٌ شاحبةٌ تحت سديمٍ لامع).

القصيدة التي تبدو للقارئ وكأنها نثرات غير مترابطة بسبب الغموض الذي يلفها، خصوصا وأن تلك السطور القليلة، لم تجعله يصل للمعنى، معنى القصيدة، لكن هذا لن يزعج القارئ إذا أدرك أن “باوند” كان يُشركه أيضا كقارئ في صياغة المعنى من خلال خياله، وهذه هي الصورة التي أراد الشاعر بشعريته الفذة، أن تختزل أسطراً عديدة من السرد والتلقين لإتاحة الخيال للقارئ، ورغم أن عنوان “نيسان” وما يعنيه من تفجر للطبيعة، يبدو غير منسجم مع الجفاف في سطورها، فنيسان عادة ما يلقي في النفس أملاً وحياة، ويحفز في الذهن صورة الحدائق اليانعة والشمس البهية. ولكن في “نيسان” القصيدة، حتى أشجار الزيتون دائمة الخضرة تبدو عاريةً ومُهملةً على الأرض، وتلك هي مفاجأة القارئ الأولى. وهنا يبدو تأثر باوند جلياً بالهايكو من خلال اختيار اسم الشهر، ويبدو أن “عزرا” هو من ألهم “إليوت” في هذه القصيدة، مطلع قصيدته الشهيرة “الأرض اليباب” والتي يفتتحها “إليوت بقوله: “نيسان هو أقسى الشهور” وهذه صورة مخالِفة للصورة المألوفة لدى القارئ عن هذا الشهر، الذي تتفجر فيه الطبيعة كما أسلفنا، هذا التأثر سيبدو جليا في العديد أعمال إليوت الشعرية.

أيضا وبإجراء جردة بسيطة للقصيدة “نيسان” سنلحظ ما يلي، في هذه القصيدة قليلة هي الأفعال، فهناك ثلاثة أفعال فقط “تراودني، سحبتني، تمتد”، وهذا مرده لكون “باوند” يريد أن يخلق صورة شعرية لا أن يسرُد أحداثاً. فباوند يُعرّف الصورة، التي يعتبرها كل القصيدة لا مجرّد إضافة تجميلية عليها، على أنها “تركيبة ذهنية وعاطفية معقّدة في لحظة زمنية”، فالأرواح مثلا في قصيدته “نيسان”، لا تتفق وما يوجد في الكثير من الأذهان عن هذه الكلمة، فمنهم من يراها رمزاً لشخص أو فكرة، ومنهم من يتصورها أشخاصاً حقيقيين، أو غير ذلك، لذا تتعدد أوجه التحليل ولا يُفرض على القارئ تفسيراً واحداً. وكان علم النفس قد اثبت ذلك بالفعل، فعند النظر على سبيل المثال إلى الرسومات ذات الخدع البصرية، والتي تدل على أن التباين في الحكم على الصورة هو فعل ذهني، تختلف الفكرة عن ماهية الصورة من شخص لآخر، وهذا ما أراده هذا الشاعر الكبير، أن يكن لكل تصوره الخاص عن القصيدة وصورها التي هي القصيدة أساسا.

“عزرا باوند” الرسام بالكلمات حقا، خلص القصيدة الغربية من ترهلاتها وشحومها الزائدة، وأعادها رشيقة كفراشة تطير ربما في لوحة، أو في فضاء، وربما في حلم، وهذا أيضا متروك لمخيلة القارئ.

تمّام علي بركات