الجولان.. البوصلة لم تتغير
لطالما ردّد بعض المتربصين أن ما بعد الأزمة – الحرب – على سورية لن يكون كما قبلها، محمّلين هذه العبارة شحنة لا يستهان بها من سوء النوايا والكثير من التوعّد المبطّن والتهديد الضمني. ولكن، ورغم أن المقولة تنطوي بحد ذاتها على الكثير من الصوابيّة، وتعكس في فحواها العام والمباشر نوعاً من الحقيقة التاريخية التي تقود إلى الإقرار بأن التغيير واجب وضروري وحتمي، إلا أن من المفيد التمييز بين أزمة – أو حرب – تقتل مشاعر الانتماء وتبدّد الوعي الجمعي وتهدّد الإيمان المشترك بوحدة المصير، وبين أزمة – أو حرب – تصقل الوعي وتضفي على الروح الوطنية المزيد من التشامخ والكبرياء والسمو، وتنتقل بالشعب إلى مرحلة جديدة متقدّمة من الشعور بالتضامن كأساس لإعادة بناء المستقبل المشترك من جديد.
ضمن هذا التصوّر، ودون مقدّمات إضافية، يمكن التأكيد أن “أهلنا في الجولان المحتل” – كما يحلو لهم أن يسمَّون – جسّدوا تجربة الانتماء الأصيل للوطن السوري طيلة محنة واهتزازات الحرب، وأن البوصلة التي كانت بين أيديهم على امتداد “سنوات الجمر” لم تكن لتقودهم إلا صوب الوطن الأم، رغم المعاناة ورغم القلق ورغم أن العصابات العميلة والمرتزقة – وأربابها – حاولت استثمار ظروف الأزمة إلى أقصى حد، وخاصة في الجنوب السوري لكي تمدّ يدها من هناك مباشرة إلى الصهاينة – الصهاينة أنفسهم! – على أمل بناء “الجدار الطيب” السوري، ووضع حجر الأساس الأقوى لمشروع التقسيم. الجولانيون، الذين يشكّلون واحدة من الراقات العميقة للهوية الوطنية السورية، تحمّلوا أقوى التهديدات وقاسوا أبشع الظروف، قابضين على الجمر، “موحدين” ومتوحّدين في مواجهة الاحتلال وزبانيته، وفي مواجهة الهجمة الأشد شراسة، التي خمّنت أن الفرصة أكثر من متاحة للاستفراد أخيراً بالجولانيين، بل والقياس على ردة فعلهم – المنتظرة!؟ – للمباشرة بالانقضاض على الوطن السوري “الغالي” و”العزيز” و”الشامخ” و”الصامد” – كما تعلّمت أجيال السوريين المتعاقبة من المعلم الراحل والمؤسس حافظ الأسد.
قدّم الجولانيون الأنموذج الأولي للمجتمع الأهلي السوري، الذي أدرك مبكراً حجم وأبعاد المؤامرة التي تتلطّى هذه المرة خلف قناع من المطالب “المحقّة”. ولربما جاءت الأسبقية في هذا الإدراك من المعاينة اليومية لواقع الاحتلال، والاختبار المرير لمعنى أن يعيش سوري تحت وطأة سلطة أجنبية، وفي مسار تاريخي مع التقاليد النضالية التي رسّختها الثورة السورية الكبرى في إطار معارك الاستقلال عن المستعمر الفرنسي منذ عشرينيات القرن الماضي؛ وقدّمت المؤسسة الجولانية أمثولة جد مبكرة في الوطنية العميقة للمؤسسة الدينية السورية، وفي رسوخ التزامها المجتمعي السياسي وأصالة مرجعيتها الأخلاقية، وتمسّكها بالانتماء النهائي، والذي لا مساومة عليه، إلى الدولة السورية الواحدة والوطن السوري الواحد، وذلك في تعارض واضح وصريح مع طروحات بعض التحريفيين والغوغائيين، الذين يحاولون بين فترة وأخرى جر النقاش الوطني إلى مساحات رمادية من الشبهات والمهاترات والتجهيل، ويختلقون فضاءات مظلمة من التشكيك المبتذل والفج، والتي لا تصب أخيراً إلا في خدمة بروباغاندا التطرّف والتعصب، كما يروّج لها أشد الرجعيين عداء وحقداً على أنموذج العيش السوري.
اليوم، وعلى وقع الإضراب العام الذي أعلنه أهلنا في المرتفعات المحتلة، لا يسجّل الجولانيون، وحسب، أول انتصار مجتمعي للبيئة الحاضنة للانتماء الوطني، خارج دائرة المواجهة الميدانية مع الإرهابيين. لقد أهالوا التراب على حسابات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ومعها “المؤسسات البديلة” العميلة التي كانت هناك محاولات مستميتة لاختلاقها، والتي عاشت لوهلة نشوة كاذبة من حلم تحطيم الوطن السوري؛ وها هم الجولانيون الرافضين لمؤسسات الاحتلال البديلة يعيدون الصراع السوري الإسرائيلي إلى إحداثيات ما قبل الأزمة – الحرب. عملياً، يعني ذلك أن “إسرائيل” لم تتمكّن من تسجيل إي رصيد إضافي ولا أي معطى جديد، جغرافي أو ديموغرافي أو استراتيجي، على جبهة الجولان، رغم سنوات الفراغ التي سببتها الأزمة، وفي إطار التداعيات المفترضة للحرب. على العكس، يمكن القول: إن الجولان يسجّل اليوم حقيقة أن المجتمع السوري يخرج من الأزمة – من الحرب – بوعي سياسي أشد صلابة وأكثر تمسّكاً بهويته واستقلاله وانتمائه الوطني.
هنا، تجد عبارة “ما بعد الحرب ليس كما قبلها” أحد أنصع معانيها وأكثرها جلاء، وترجمتها الحقيقية بالضبط.
بسام هاشم