الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأمينة..

سلوى عباس

إذا كانت الدراما التلفزيونية قد قصّرت بحق المرأة وقدمتها بصورة لا تليق بمكانتها، فإنها في السينما كانت أكثر حضوراً وإنصافاً، خاصة وأنها من أهم الأيقونات المستهدفة في هذه الحرب المجنونة التي استهدفت الهوية السورية، وربما تكون السينما السورية قد احتفت كثيراً بحضور المرأة في نتاجها وتحديداً في زمن الحرب، وإذا استعرضنا الأفلام السينمائية التي كانت المرأة محوراً أساسياً لها فإنه يحضرنا الكثير من الأفلام التي قدمت المرأة بصورتها الحقيقية والعميقة، بدءاً من ثلاثية “المرأة والحرب” للمخرج باسل الطيب وهي “مريم- الأم- سوريون” حيث رأى الخطيب في المرأة عالماً غنياً وجذاباً رغم ما يكتنفه من معاناة وألم وحزن، وكثيراً ما ردد أنه أراد من خلال هذه السلسلة التحدث عن المرأة السورية التي وجدت نفسها في سياق تاريخي واجتماعي صعب، تواجه حروباً دموية وأخلاقية ووجودية، لكنها لا تفقد ما منحتها إياه الطبيعة من مشاعر الحب والتضحية والإرادة، وهناك أيضاً أفلام المخرج  عبد اللطيف عبد الحميد التي ركزت على المرأة في كل جوانب الحياة، وكذلك أفلام جود سعيد وريمون بطرس وغسان شميط وغيرهم كثير من المخرجين السوريين الذين كانت المرأة وقضاياها محور أفلامهم، وآخر من قدّم المرأة السورية كأيقونة حياتية المخرج أيمن زيدان عبر فيلمه “أمينة” الذي يتناول قصة الأم “أمينة” -جسدت الشخصية بكثير من الحرفية والمهارة الفنانة نادين خوري- التي تواجه الكثير من المتاعب والأطماع، وتعيش صراعاً بسبب ظروف ابنها المريض العاجز عن الحركة والنطق، وبسبب ابنتها التي تصبح محط أنظار أحد المتنفذين والتي كانت أيضاً أنموذجاً آخر جميلاً ومعطاء للمرأة السورية، كما يناقش تداعيات الحرب على وجدان البشر، ممن رأوا أهوالها، وتمكنوا على الرغم من ذلك من أن يصبحوا أيقونات للصبر، فيقدمها تلك الإنسانة التي تحمل في روحها عبق الحياة يلجأ إليها أبناؤها ليستمدوا منها القوة ويتجاوزوا ما يرهقهم، وهي المتعبة بأثقال الحياة، الأم هي الإنسانة الوحيدة التي تشبه روحها وذاتها كثيراً.. تجمع بوحها في كفها، حفنة من ماء الانكسار ينسرب من بين أصابع قلبها كما الضوء.. يشعّ راشحاً في الأرض، فتجسد بصبرها أمثولة للعطاء الذي تنسجنه راية من إرادة وصمود تحلّق في سماءات لا نعرفها، “أمينة” تلك الأم التي استلت أرواحنا من رمادها في ذلك المساء الريفي الجميل، وأشعلت فينا دفئها المدهش.. استمطرت نجومها على قلوبنا، وأومت أن يزهر الياسمين فأزهر، وألمحت للشمس أن تمدّ ضياءها فينا فانداح نهراً من النور.. تلك الأم أمسكت بأبناء قلبها وقرأتهم ككتاب، فهدأت أرواحهم بين يديها وأسكنت فيهم السلام، واختصرت أبجديات اللغات، وكانت الأمينة على الرسالة التي وهبتها إياها الحياة، فسبحان من أعطاها هذا السر، وأولاها شأن أن ترسل من صبرها غمامة من بهاء الحياة، تغسل الكون بمائها المعسول بالصبر والأحلام وصيرورة الحياة، فإذا كانت الأم مدرسة كما وصفها الشاعر، فالأمهات السوريات يمثّلن مدرسة من تضحية وكبرياء في إعداد أبطال شكلوا طوقاً من ياسمين زيّن جيد الوطن، وكانت تضحياتهم عبقاً يحمل نسائم العزة والفخار، ومن استشهدوا منهم رسموا باستشهادهم عزة أمتهم ووطنهم وكل من ينتمي إليهم ويسير على دربهم، فشكراً للمخرج أيمن زيدان على هذه التحفة السورية المشغولة بكثير من الشغف والحب.