العالم والحاجة إلى اقتصاديات جيدة
ترجمة: عناية ناصر
عن موقع غلوبال تايمز 1/11/2018
تولّد الاقتصاديات السيئة سياسات سيئة، فقد دفعت الأزمة المالية العالمية، والتعافي غير المكتمل بعد ذلك، الريح في أشرعة التطرف السياسي. تضاعف تأييد الأحزاب المتطرفة في أوروبا بين عام 2007 و2016، فحقّقت جميع الأحزاب اليمينية مكاسب انتخابية خلال السنتين الماضيتين، ومنها التجمع الوطني في فرنسا (الجبهة الوطنية سابقاً)، الحزب البديل في ألمانيا، وحزب رابطة الشمال في إيطاليا، وحزب الحرية في النمسا، والحزب الديمقراطي السويدي، ناهيك عن الرئيس الأمريكي ترامب والبريكست.
ولا شك أنه لا يمكن تفسير انفجار التطرف السياسي بالضائقة المالية وحدها، لكن الارتباط بين الأحداث الاقتصادية السيئة والسياسة السيئة ملفت للغاية بحيث لا يمكن تجاهله. ويقصد بالسياسة السيئة، النزعة القومية المعادية للأجانب وقمع الحريات المدنية المحلية في البلدان ذات الحكومات الشعوبية. وبالسياسة الجيدة ، الكونية، وحرية التعبير والحكم الخاضع للمساءلة الذي ساد خلال فترة رخاء ما بعد الحرب. ولندعوها ديمقراطية غير ليبرالية وليبرالية باختصار. ويقصد بالاقتصاد السيئ، السماح للأسواق المالية بإملاء ما يحدث للاقتصاد الحقيقي. وعلى النقيض من ذلك، يعترف الاقتصاد الجيد بواجب الحكومة في حماية الناخبين في مواجهة المعاناة، وانعدام الأمن والكوارث. من الصعب جداً على الليبراليين قبول بأن السياسات السيئة يمكن أن تنتج اقتصاديات جيدة، وأن السياسة الجيدة يمكن أن تنتج اقتصاديات سيئة. ومع ذلك فإن هنغاريا تقدم مثالاً واضحاً عن السابق، فقد أصبحت البلاد في ظل إدارة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، استبدادية بشكل متزايد، لكن البرنامج الاقتصادي لحكومة أوربان يتبنى الكينزية. وعلى المنوال نفسه، من المؤكد أن السياسة الجيدة يمكن أن تتعايش مع اقتصاد سيئ، فقد جعلت سياسات التقشف السابقة التي أصدرها وزير الخزانة البريطاني جورج أوسبورن المملكة المتحدة تعيش سنوات من الركود.
من الأسهل على الوطنيين انتهاج سياسات الحماية الاجتماعية. تاريخياً، يشمل ذلك بالطبع النازيين، الذين كانوا اشتراكيين وطنيين، وموسوليني، الذي بدأ حياته السياسية كناشط اشتراكي. بينما يدافع الليبراليون عن حرية حركة البضائع والناس والمعلومات، في حين تسعى السياسة الوطنية إلى تقييد الثلاثة.
صحيح أن الأحزاب اليسارية المتطرفة حقّقت تقدماً أيضاً منذ الركود ما بعد الأزمة، لكن التاريخ يشير إلى أن الوطنيين لديهم الكثير ليستفيدوا من نوبات الانهيار السياسي والاجتماعي، فمن السهل أن نرى لماذا؟!.
الاشتراكية الكلاسيكية هي وريثة الأممية الليبرالية، أي أنها عقيدة معولمة، فهي من حيث المبدأ لا تعرف الحدود الوطنية، ومع ذلك، في مواجهة التصدعات الاقتصادية على نطاق واسع، أصبحت النزعة الكونية هي المستهدفة. وبما أنها بلا قيود، على النقيض من السياسة الوطنية، فهي مسؤولة أمام أي شخص. لذا عندما ينهار النظام الدولي، يمكن للوطنيين أن يقدموا أنفسهم بوصفهم البديل الوحيد. بسبب هذه الديناميكية، لدى اليسار القليل من الخيارات الجيدة. لم يعد بإمكانه الاستفادة من العداء الشعبي ضد المهاجرين واللاجئين. ومن ناحية أخرى، إذا حاول اليسار اللعب بورقة مكاسب الهجرة، فقد يدفع المزيد من الناس إلى أحضان أحزاب معادية للمهاجرين. قد لا يكون هناك أي اعتراض على الليبرالية الاقتصادية إذا أوفت الأسواق دون عوائق بوعدها في تلبية الحاجات الفردية من خلال عملية “اليد الخفية” لآدم سميث. المشكلة، كما استنتج جوزيف شومبيتر، هي أنه حتى لو كانت الأسواق في كثير من الأحيان “تعمل” بالطريقة التي يفترض أن تعمل بها، فإنها تكون أيضاً مدمّرة للغاية وعرضة للانهيار الدوري.
علاوة على ذلك، في حين أن الابتكارات التكنولوجية التي تروّج لها الأسواق تحقّق منافع حقيقية على المدى الطويل، فإنها تميل إلى ترك الكثير من الدمار الاقتصادي والاجتماعي في أعقابها. وإلى جانب ذلك، فإن اختيارات السوق ليست المصدر الوحيد لقلق الأشخاص، فالحياة التي تفرضها الأسواق بالكامل تكون خالية من المعنى.
يعتقد بعض المعلقين اليوم أننا نشهد المجيء الثاني للفاشية. رغم أن الكثيرين يخشون مثل هذا التنبؤ، فما يُسمّى بالركود الكبير لم يكن سيئاً مثل الركود الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يتبع حرباً مدمرة. يمكن القول إن الاقتصاد السيئ يجعل من الأرجح أن تنتقل السياسات السيئة من الهامش إلى الاتجاه السائد، كما فعلت الاشتراكية القومية الألمانية “النازية” بين عامي 1928 و1930. وتعتمد مسألة ما إذا كانت الأحزاب السيئة تصل إلى السلطة، وكيف تمارس هذه السلطة، على العديد من العوامل، درجة الضائقة الاقتصادية بالتأكيد أمرٌ مهمّ. ولكن كذلك قدرة النظام السياسي القائم على التكيّف، ونطاق توفير الرعاية، والسياسات الانتخابية والقيادة السياسية، والسياق الدولي.
يجب أن يكون التصاعد السريع للتطرف اليوم بمثابة دعوة للانتباه، ويجب الفصل بين السياسة الليبرالية الجيدة والاقتصاد السيئ للنيوليبرالية التي أنتجت كارثة عام 2008. وهذا يعني إعادة نوع الاقتصاد الذي ساد من أربعينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، والتخلص من إرث الرئيس رونالد ريغان في الولايات المتحدة ورئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة. كان فريدريك هايك مخطئاً في القول إن الديمقراطية الاجتماعية الكينزية هي منحدر زلق للعبودية. على العكس، إنها الترياق الضروري.
إن الإستراتيجية الاقتصادية الجيدة في عصرنا ستفعل ثلاثة أشياء: ستتخذ الاحتياطات ضد الانهيارات مثل انهيار 2008، وستستجيب استجابة قوية لمواجهة التقلبات الدورية في أي انهيار يحدث، وسوف تستجيب للمطالب الشعبية بالعدالة الاقتصادية.
وبالمثل، يتطلّب الحفاظ على السياسة الجيدة اليوم أن نولي اهتماماً عاجلاً لأربعة موضوعات: الحدود السياسية والاجتماعية للعولمة، وإضفاء الطابع المالي على الاقتصاد الحقيقي، ودور السياسة المالية والنقدية، وفك الارتباط بين العمل والأجر في عصر تسارع التشغيل الآلي. مؤيدو الليبرالية، وأولئك الذين على يسارهم، يهملون هذه القضايا عند تعرضهم للخطر!.