العقد المصطنعة أمام المنشار
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
يعرف كل نجّار أنه يمكن أن يواجه مشكلة العقد أمام المنشار، ويعرف أيضاً أن هذه العقد لا تكون متماثلة. وهذا يعني أن أسلوب المعالجة غالباً ما يختلف من عقدة إلى أخرى. وهذا الاختلاف في المعالجة لا يتوقف على إرادة النجار، وإنما يتوقف على طبيعة العقد ذاتها، وعلى طبيعة المنتج النهائي الذي جعل النجار بحاجة إلى استخدام المنشار.
هذه الحقيقة استطاع الناس أن يلمسوها بوضوح من خلال ما قيل في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرؤساء الثلاثة بوتين وروحاني وأردوغان في قمة طهران، فقد رأوا أردوغان يغرّد في مكان ما خارج السرب، مميزاً بين عقدة في إدلب وأخرى. وجاء منطق أردوغان على هذا النحو ليتقاطع مع موقف الغرب الذي تركز همّه خلال الفترة الأخيرة على محاولة الحيلولة دون تشغيل المنشار في مواجهة العقد بذرائع مختلفة من بينها أن ذلك سيلحق الأذى بالمدنيين، وأن إنسانية الغرب الطافحة تجعله يعارض ذلك، ومنها أنه ليس كل من في “تنظيم القاعدة” الإرهابي إرهابياً، فهناك في نظر الغرب إرهابيون محترفون وإرهابيون هواة أو التحقوا بـ”جبهة النصرة” التابعة “للقاعدة” مصادفة أو بحكم الضرورة أو على سبيل الارتزاق، ومنها أن العقدة التي يمثلها إرهابيو “القاعدة” يمكن تجاوزها من خلال التحامهم مع من يسميهم الغرب بالمعارضة المسلحة في جبهة واحدة، وبذلك تتحول عقدتهم تلقائياً إلى معتدلة، وهو منطق إن دلّ على شيء فعلى أن العقد جميعاً هي من تأليف وتلحين الغرب، وأنه يسعى إلى استثمار هذه العقد حتى النفس الأخير.
إن المسألة الجوهرية في هذا المنطق القائم على التلاعب بالعقد واستثمارها، سواء تعلق الأمر بالغرب أو بالنظام التركي وبعض الأنظمة العربية، أنهم يريدون استثمار بقاء العقد على طاولة المفاوضات، بدعوى أن حلّ المشكلة يأتي من خلال مفاوضات إقليمية ودولية وليس بواسطة المنشار. وهنا يوجد في الواقع إقرار أكثر من ضمني بأن الدول المصنّعة للعقد إنما تريد استثمارها حتى النهاية، وأنها تتخذ منها وسيلة للضغط والتلاعب السياسي، وهو ما يكشف عن أبعاد المؤامرة.
إن من حق الدولة السورية ومن واجبها أيضاً أن تعالج هذه العقد ميدانياً، وألا تسمح للأطراف المعادية بمواصلة استثمارها، أو مواصلة اتخاذها ذريعة لتحقيق أهداف سياسية تكون جزءاً من الأهداف الأساسية للمؤامرة التي استهدفت الوطن العربي وليس سورية وحدها، والتي تطلّبت تصنيع العقد. فالعقد التي أوجدت هي منذ الأساس بعض مقومات المؤامرة، والتخلّص منها ضرورة من ضرورات القضاء على المؤامرة. ولا يمكن لمن يتصدى للمؤامرة أن يسمح بتحويل تلك العقد إلى جزء من الحل، أو أن يستغلها الآخرون كأداة للضغط وفرض إرادتهم. كما أن الحل في حدّ ذاته يجب أن يكون حلاً وطنياً سورياً، وليس حلاً دولياً يفرض شروطه على سورية.
إن نظرة سريعة على واقع التشكيلات الإرهابية الموجودة الآن في محافظة إدلب ومحيطها تبيّن أن هناك ثلاثة أنواع من التشكيلات، أو لنقل من العقد:
– العقدة الأولى: هي تلك المتمثلة بتنظيم “القاعدة” بغض النظر عن الأسماء والمسميات التي انتحلها أو يمكن أن ينتحلها. وهذه العقدة يسلم الجميع حتى الآن، بما في ذلك من صنّعوها ومن يقومون على استثمارها، بأنها إرهابية، وباستحالة معالجة أمرها سلمياً. ومع أنهم جاؤوا بعناصرها من مختلف أنحاء الأرض إلا أنهم يزعمون عدم قدرتهم على إعادة هذه العناصر إلى الأماكن التي جاءت منها، أو إخراج هذه العناصر من الجغرافيا السورية. ورغم إقرارهم بأن هذا التنظيم إرهابي، وأن محاربته واجبة، إلا أنهم يحاولون حمايته ودعمه بشتى السبل والوسائل، وآخر صرعة خرجوا بها تتمثّل في دعوى أنه ليس كل من انتمى إليه إرهابياً بالضرورة، أو التصاقه بعقدة أخرى يزعمون أنها ليست إرهابية من حيث الجوهر، ومعالجة عقدته بالقوة تعني إلحاق الأذى بها بالضرورة، أو بدعوى وجود مدنيين سيلحق بهم الأذى في حالة استهدافه. وهكذا، فإنهم يتخذون من الآخرين بما فيهم المدنيون دروعاً بشرياً بهدف حماية الإرهابيين.
– العقدة الثانية: تتمثل بتلك التنظيمات الخاصة التي أوجدها النظام التركي من عناصر أجنبية موالية لهذا النظام، ومن ضمنها عناصر تركية. ورغم أن هذه التنظيمات هي في جوهرها إرهابية، كما أن صلتها بجماعة “الإخوان المسلمين” من خلال تبعيتها لحزب العدالة والتنمية في تركيا، هي أكثر من واضحة، إلا أن المنطق يفترض النظر إليها على أنها عقدة منفصلة لسببين: أولهما كونها مشكّلة من عناصر غير سورية، وثانيهما كونها تأتمر بأوامر السلطات التركية. وعليه فإنه ينطبق عليها في المحصلة ما ينطبق على التدخل التركي.
– العقدة الثالثة: هي عقدة العناصر السورية التي جرى تجنيدها في خدمة المخطّط الشيطاني من قبل أطراف التآمر، سواء بسبب انحراف قياداتها في الخارج وعلاقتها مع أجهزة المخابرات الغربية، إذا كانت تابعة أصلاً إلى تنظيمات سياسية، أو بسبب الإغواء والتضليل الذي مورس عليها. والواقع أننا نستطيع –ومع هامش بسيط من تجاوز الواقع– أن نحدّد هذه العقدة حصراً بجماعة “الإخوان المسلمين”، ذلك أن العناصر الأخرى من غير هذه الجماعة غالباً ما أخرجت نفسها من إطار العقدة أو العقد، إما من خلال المصالحات وتسوية أوضاعها، أو من خلال السعي الفردي للخروج من عنق الزجاجة.
ولكي نفهم طبيعة هذه العقدة وحدودها، وكيف تنظر الأطراف المختلفة لها، لا بد لنا بداية من تسجيل الملاحظة القائلة بأن جماعة “الإخوان المسلمين” كانت هي القوة السياسية الأساسية المنظمة التي أسندت إليها المخابرات المركزية الأمريكية والأطراف الدائرة في فلكها مهمة الانخراط فيما سمّوه بـ”الربيع العربي”، ونعني مؤامرة الشرق الأوسط الجديد.
بالطبع لا أحد يستطيع الافتراض بأن جماعة الإخوان قبلوا بالانغماس في هذا المخطط دون وعود مسبقة لهم بتمكينهم من السلطة في العديد من الأقطار العربية. ومن المؤكد أن هذا الوعد بالتمكين، وسواء أكان أصحابه صادقين أم كاذبين، لأن الهدف الحقيقي للمخطّط الشيطاني الذي أداره الطاغوت الأمريكي كان تمكين “إسرائيل” من التوسع بين الفرات والنيل، من المؤكد أنه كان يتضمن أموراً منها تسخير قوى وأطراف أخرى لخدمة محددة بالإضافة إلى جماعة “الإخوان”، عدا عن الوعد المسبق بالتدخل الأميركي الغربي لترجيح كفة المتمردين متى تطلّبت الحاجة ذلك. وبتعبير آخر، كان الوعد يفترض أن يجندوا أنفسهم في خدمة المخطط على أن تجند قوى أخرى لمساندتهم وضمان وصولهم إلى غايتهم، وكانت تركيا هي أحد الأطراف المضمونة بحكم ارتباط حزب العدالة والتنمية بالتنظيم الدولي “لجماعة الإخوان”.
حين ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية، وحين ننظر إلى الأمور من الزاوية التي نظر بها “الإخوان المسلمون” لتطورات الأمور، سنلاحظ مسائل معينة قد تبدو بعضها للوهلة الأولى بسيطة، لكنها لم تكن في سياق تطور الأحداث بلا معنى. مثلاً، إن قيام الإعلام الغربي بوصف الأحداث التي شهدها العديد من الأقطار العربية عام 2011 بـ”الربيع العربي” لم تكن بلا معنى بالنسبة لجماعة “الإخوان المسلمين” الذين كانوا يفترضون أن توصف بـ”الربيع الإسلامي” طالما أن هناك وعداً “للإخوان المسلمين” بالتمكين. وإذا كانت هذه الملاحظة تبدو شكلية، فإن ما حدث في مصر من ثورة شاملة على حكم جماعة “الإخوان المسلمين”، والإطاحة بهذا الحكم، بعد أن كان قد جرى تمكين الجماعة من الإمساك به، دلل بشكل لا لبس فيه أنه ما من التزام أميركي حقيقي بتمكين “جماعة الإخوان”. وهذه الملاحظة يمكن أن تنطبق أيضاً على تطورات الأوضاع في ليبيا، حيث وجد “الإخوان” أنفسهم عاجزين عن الإمساك بالسلطة أو السيطرة على الأرض. وهذا هو الوضع في تونس تقريباً، وإن اتخذ مسلكاً أكثر نعومة. ولم تأتِ تطورات الوضع في اليمن بما هو أفضل بالنسبة لجماعة “الإخوان المسلمين”. وها نحن نرى كيف أن حزب الإصلاح بات في وضع حرج. وكل هذه في الواقع مؤشرات على أن السبل أمام “الإخوان” ليست مفتوحة كما توقعوا. لكن المؤشر الأخطر الدال على أن الالتزام الأميركي تجاه “الإخوان” لم يكن التزاماً مطلقاً بل نسبياً، تمثل في الضربة التي وجهتها دولة الإمارات لجماعة “الإخوان” بغض النظر عن أسباب تلك الضربة، وجاء المسلك السعودي بعد الاصطدام مع قطر ليضع “الإخوان” في حالة حيرة وارتباك، إذ وجدوا أن مواقعهم التقليدية في السعودية والخليج أخذت تتهاوى.
إذا نحن أضفنا إلى المؤشرات السابقة وما تنطوي عليه من دلالات، حقيقة أن الوعد الأميركي بالإسناد العسكري “للإخوان” وشركائهم في التمرد إذا استلزمت الحاجة ذلك لم يتحقق، بدا واضحاً تماماً أن جماعة “الإخوان” وجدت نفسها أمام معارك خاسرة، وأن أملها الوحيد بات محصوراً في الإسناد التركي والدعم المالي القطري.
هل تعني هذه المعطيات أن الأمريكيين تخلوا عن “جماعة الإخوان المسلمين” بعد توريطها؟.
في الواقع أنها لا تعني ذلك إطلاقاً. فأمريكا تعرف أن ورقة “الإخوان” هي إحدى الأوراق المهمّة التي تعتمد عليها في تنفيذ خططها على صعيد العالم، ولكنها ليست كل شيء. إذ أن هناك قوى أخرى عديدة لا تقلّ الأدوار المسندة إليها خطورة عن الدور الذي أسند “للإخوان”، بل ربما كان أكبر. ثم إن المشكلة تكمن في الوهم الكبير الذي سيطر على قيادة جماعة “الإخوان” حين اعتقدت أن أميركا تريد لها التمكين، بينما هدف المخطط هو تمكين “إسرائيل”. وحرب هذه هي غايتها الحقيقية تتطلّب زيادة التمزق في الساحة العربية، وليس تمكين جماعة ما من السيطرة على هذه الساحة، سواء كانت هذه الجماعة قومية أو إسلامية أو أممية.
إن من يهدف إلى تمكين “إسرائيل” إنما يسعى إلى التفتيت الاستراتيجي للمنطقة، وإلى محاولة تمزيق كياناتها إلى كيانات صغيرة متنازعة، وإعادة رسم خريطتها. ومن هنا نستطيع أن نفهم بأن الأدوار التي أسندها الأمريكي إلى “القاعدة” و”داعش” وتشكيلات أخرى من المرتزقة إنما تخدم هدف التفتيت الاستراتيجي، وأن الدور المسند “للإخوان” يدخل أيضاً في هذا السياق. وفي نظر الأمريكي ما كان لأي طرف أن يتجاوز حدود الدور المطلوب منه ليطغى على الأطراف الأخرى، وإلا فإنه سيفسد على الأمريكي خطته.
والآن، وبعد أن تبيّنت معنا ملامح الصورة وراء الأحداث العاصفة التي حدثت وما ترتب عليها نتساءل: ماذا عن عقدة “الإخوان” في إدلب؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال من الملائم أن نذكر بالحقيقة التالية: إن عقدة “الإخوان” المتشكلة في إدلب الآن لم تتشكل هكذا بالمصادفة. فأغلبية المسلحين الذين آثروا ركوب الباصات الخضراء والتوجه إلى إدلب أو جرابلس –إن لم نقل الكل– إنما كانوا من “جماعة الإخوان المسلمين”. ومن الواضح أن هؤلاء –وكالعادة– عادوا إلى قياداتهم في الخارج لاستشارتها في الموقف الذي يتخذونه من المصالحات، فكان التوجيه ألا يلقوا أسلحتهم وألا يسووا أوضاعهم أسوة بكثيرين آخرين من المسلحين، وأن يختاروا التوجه إلى إدلب أو جرابلس ليتجمعوا هناك.
لننتبه هنا إلى أن من ركبوا الباصات الخضراء واتجهوا شمالاً، إنما أقروا بهزيمتهم الميدانية، ومن الصعب أن نفترض أن انتقالهم إلى الشمال من شأنه أن يقلب ضعفهم إلى قوة. ثم إنه من الصعب أن نتصوّر بأنهم اصطحبوا عائلاتهم معهم ليضعوها في ميدان حرب ملتهبة. فاصطحاب العائلات في حدّ ذاته شكل دليلاً على أن هناك تبريرات وتطمينات أُعطيت لقرار الانتقال إلى الشمال غير استئناف القتال. فما الذي يمكن أن تكون عليه هذه المبررات؟.
من المؤكد أن الاستناد إلى جدار الحماية التركية وإعطاء تركيا مبرراً إضافياً للتواجد كان أول هذه المبررات، ومن المؤكد أن إعطاء تركيا ورقة قوة إضافية على مائدة التفاوض اللاحق المتوقع كان المبرر الثاني. أما المبرر الثالث المحتمل فهو حصول قادة “جماعة الإخوان” مرة أخرى على وعد أميركي وغربي بعدم تمكين الجيش السوري من إزالة العقد التي وضعت أمام المنشار في محافظة إدلب وجوارها. وتكون عقدة “الإخوان” والمدنيين ومنهم عائلات “الإخوان” من بين هذه العقد، أو لنقل محور هذه العقد. فأمريكا لا تستطيع أن تبرر مسلكها العدواني على أساس مناصرة “جبهة النصرة” المدرجة على قوائم الإرهاب، ومن ثم فإنها تحتاج إلى عقدة بديلة “للنصرة” تبرر بها موقفها. وبالطبع فإن الأمريكي عدا عن حاجته إلى هذه الورقة كذريعة يبرر بها انحيازه إلى الإرهاب، فإنه يفكر أيضاً بأنه سيكون بوسعه صرفها في السياسة. وكالعادة نتوقع أن يكون الأمريكي قد وعد “الإخوان” خيراً إذا هم سلكوا السبيل الذي رسمه لهم، بأن يحقّق لهم ما يطمحون إليه في أن يكونوا طرفاً في السلطة بعد أن كانوا يحلمون بالسيطرة الكاملة على السلطة.
وهكذا يكون الإخوان قد سيقوا إلى المكان الذي يؤدون فيه دور العقدة. ولكن مع ربطهم بإرهابيي “القاعدة” من جهة وبالقوات التركية من جهة ثانية. وإذا كان التركي قد طولب بالفصل بينهم وبين إرهابيي “القاعدة” ولم يفعل، فهذا يعني أنه يصرّ على استخدامهم كعقدة تعترض المنشار. وإذا كان يعمد إلى تعقيد مشكلة المدنيين الراغبين في مغادرة إدلب إلى أماكن أخرى بعيداً عن ساحة القتال، فإنه يسهم مع الغرب أيضاً في محاولة تضخيم حجم العقدة بجمع عقدة “القاعدة” إلى عقدة “الإخوان” إلى عقدة المدنيين سواء كانوا من عائلات المسلحين أو غيرهم، وتحويلها معاً إلى عقدة واحدة. وهذا هو كما نلاحظ المنطق الذي أقام عليه الأمريكي وحلفاؤه حملتهم الدعائية الهادفة إلى الحيلولة دون القضاء على الإرهابيين في إدلب، وتهديداتهم بالتدخل لحماية هؤلاء الإرهابيين.