قصر الشوق (3)
د. نضال الصالح
هُرع عمّ محمود إلى مصدر الصوت، وبدلاً من أن يقول أيّ كلمة لفاطمة أو سامي، قال لصاحب الصوت: “ما تتدخلش بحاجة ما بتخصكش”، ثم لفاطمة وسامي: “عاوزين ايه يا أبطال؟ قهوة؟ شاي خمير؟ شيشة؟”، ولم يدعه سامي يكمل، فأسرع إلى القول: “عاوزين أمثالك يا عمّ محمود، أنت كنز في الزمن الصعب ده، الزمن الأسود بتاع الإخوان ومرسي”، وكان عمّ محمود يرسل عينين عابدتين لعيني فاطمة وهو يردّد في سرّه: “كانت بتشبهك يا بنتي، كانت زي القمر زيّك”، وعندما قرأ سامي في عيني العمّ ما وراءهما من نداء إلى شيء خفيّ، صفّق بيديه، فهُرع إليه أحد عمّال المقهى، فقال: “هات تلاتة قهوة وشيشة فراولة لعمّ محمود”.
حكى عمّ محمود لفاطمة وسامي حكاية ابنته إيناس التي تشبه فاطمة في غير ملمح، ولاسيما استدارة وجهها التي تشبه “رغيف عيش”، وجبينها، وعيناها المترفتان بكوكبين لونهما عسل مصفّى، وبشرتها المورّدة بسمرة باهرة، والتي قضت في أحداث الثلاثين من يونيو/حزيران عندما خرجت مظاهرات في مختلف أنحاء مصر تطالب باستقالة فورية لمرسي، وكانت إيناس واحدة من خمسة من الذين قضوا برصاص “الجماعة”، الإخوان، آنذاك. وممّا قال وهو يزفر هواء كثيفاً من قاع رئتيه: “دول تنظيم عالمي، تنظيم بيتكلم باسم الإسلام والإسلام مش كده”، ثمّ غادر إلى طاولته بعد أن قبّل سامي كما قبّل فاطمة من جبينها وهو يقول لها: “مصر بلدك يا بنتي زيّ ما سورية بلدك، احنا بلد واحد”، ثمّ برقت عيناه بضوء باهر فيهما وهو يستعيد أغنية لم ينسها ولن ينساها كما قال: “من الموسكي لسوق الحميدية أنا عارفة السكّة لوحديّه”.
طوال علاقة سامي بفاطمة لم يفكّر بأن يسألها كيف أنّ اسمها فاطمة وهي مسيحية، وعندما سألها ذلك اليوم بعد أن غادر العم محمود طاولتهما، أطلقت ضحكة عالية التفت إليها كثير من مجاوريهما في المقهى، وقالت: “واضح إنك ما بتعرف سورية منيح يا سامي”، وبعد أن رشفت قليلاً من قهوتها تابعت: “في الشام عندنا كنيسة اسمها كنيسة السيدة فاطمة”، فاتسعت عينا سامي على آخرهما، وردد: “كنيسة السيدة فاطمة؟”، فأكملت فاطمة: “وفي الشام، في حي القصور، وتمّ بناؤها قبل أكثر من خمسين سنة”، ثمّ حكت له حكاية سبب تسميتها بهذا الاسم كما سمعتها من الأب “متري” الذي كان صديقاً لوالدها، والذي طالما كانت تتردد عليه في كاتدرائية سيدة النياح لتستعير بعضاً من محتويات مكتبته العامرة.
عاد عمّ محمود إلى طاولة فاطمة وسامي وهو يحمل في يمينه وردتين مترفتين بلون البنفسج، ويقدمهما إليهما قائلاً: “عصفور الجنة، اسم الورد ده كده”، وموجها عينيه نحو سامي متابعاً: “بتحبّها يا ابني؟”، ولم يكد يتم سؤاله، حتى أضاء وجه كليهما، فاطمة وسامي، بحمرة باذخة، وحتى هُرع سامي إلى القول: “إزاي يا عمّ محمود؟ دنا بعشقها مش بحبّها”، وحتى كان مقهى “قصر الشوق” ينفتح على سماء باهرة الزرقة تمتد حتى تبلغ الشام.