“الزوج الأبدي”.. ديستويفسكي يقدم نفسه دون أي تكلّف
في كل مرة وقبل أن تبدأ بقراءة ديستويفسكي عليك أن تتوقع الوقوع في حب هذا الكاتب، ولا تعجب إن وجدت نفسك منساقاً بشكل أو بآخر وراء أفكاره، وأنت في كل مرة تخوض برفقته مغامرة من مغامراته تلك التي ساحتها الورق، سوف ستجده حاضراً من خلال واحدة من تلك الشخصيات التي يحمّلها الحكاية، ويعاني معها ذاك الصراع الأزلي بين الخير والشر، ليس ذلك القائم بين الأشخاص بعضهم بالبعض الآخر، لكنه هذا الصراع الداخلي الذي يدور في أعماق كل نفس بشرية بذاتها، هي الحال التي رأيناها في رواية “مذلون مهانون” وهي ما نراه الآن في رواية الزوج الأبدي وإن بحالات مختلفة، وهو في كل حكاية يرويها لنا يقدم لنا ذاته بعبارات بسيطة وعفوية دون أي تكلف أو تزلف.
اعتراف
الزوج الأبدي روايته القصيرة نسبياً التي كتبها في خريف العام 1869 كان كتب إلى صديقه الشاعر “أبولون مايكوف” بعد الانتهاء منها يعترف له بالجهد الذي استنزفته منه والصعوبة التي تكبدها خلال تأليفها، والكآبة التي لازمته حينها، بينما يعالج من خلالها إشكالية العلاقة الثلاثية ما بين “الزوج والزوجة والحبيب”.
القبعة السوداء
في بدايتها تقدم لنا الحكاية رجلاً أربعينياً أو يكاد يكون، ذو حظوة اجتماعية وعلى شيء من الثراء يدعى السيد “فلتشانينوف” أجبرته الظروف على الإقامة المؤقتة في بطرسبرغ بسبب ضرورة متابعته لقضية نزاع حول قطعة من الأرض التي يمتلكها، الوحدة التي يعيشها في تلك الفترة تقلّب عليه الذكريات والمواجع القديمة التي وضعته في جو من الكآبة والشعور باللاجدوى من أي شيء وأن “الأمور تسير من سيء إلى أسوأ” فهو برغم سنواته التي لم تتجاوز الأربعين، بات يشعر أنه عجوز مثقل بالهموم والحزن والندم على الكثير من التصرفات غير اللائقة التي شابت سنوات شبابه “إنها الشيخوخة، نعم أنا أشيخ بشكل مرعب، أفقد الذاكرة، أرى أشباحاً، أحلم بأجراس تقرع، اللعنة أعرف هذه الكوابيس إنها أعراض حمى، أدرك جيداً أن قصة قبعة الحداد قد تكون مجرد حلم” لكنها في الحقيقة لم تكن حلماً إذ على غفلة منه ودون موعد سيزوره السيد صاحب القبعة السوداء ذاته، السيد بافيل بافيلوفيتش/ تروتسكي، الذي كان لمحه في عدد من المرات من قبل ولم يتعرف عليه ولم يكتشف أنه أحد أصدقاءه القدماء؛ زوج مستعبَدٌ من زوجته ناتاليا ومخدوع أيضاً، ناتاليا التي كان أحبها هو يوماً ما في السابق، قبل ما يقارب العقد من الزمن. لم تكن المفاجأة في الزيارة فقط، ولم يكن الضيف بل في تلك الأخبار التي حملها، لقد ماتت الزوجة، وتركت وراءها طفلة صغيرة يكتشفها فيلتشانينوف بالصدفة، حين يقوم بزيارة غير متفق عليها للسيد بافيل بافيلوفيتش، يرتجف قلبه فور رؤيته للصغيرة ويفترض مباشرة أنها ابنته هو، ولأنه شهد في الحال على سوء معاملة السيد للطفلة الصغيرة، فهو لا يكاد يستفيق من حالة سكر حتى يعود إليها مرة أخرى، سيعمل على أن يأخذ الفتاة بحجة تأمين إقامة أكثر استقراراً لها لدى عائلة من أقربائه، الأمر الذي لا يجد بافيلوفيتش حرجاً في القبول به، لكن الفتاة سرعان ما تمرض وتموت خلال فترة وجيزة على فراقها أبيها، والحال كذلك سيدخل فيلتشانينوف مرحلة من الكآبة والحزن لم يكد يخرج منها حتى عادت إليه من جديد، وتجعله لوهلة من الزمن يفكر بالاقتصاص من الرجل الذي أساء للصغيرة وأدخلها في صراع وحالة نفسية سيئة أوصلتها إلى المرض ومعاناة حالات من التشنج والسقوط على الأرض مغشياً عليها، حدث الأمر حين شهدت على انتحار أحد نزلاء الفندق الذي يقيمان فيه، تقول خادمة المكان أنه كان يردد على مسامعها عبارة “أنت لست ابنتي.. أنت لقيطة” وهو حين عاد يومها: “قام بقرصها في جميع أنحاء جسمها، لقد اعتاد على ذلك بدل ضربها، ثم سكب له كأساً من الخمر، وبدأ في إخافتها: سأشنق نفسي أنا أيضاً بهذا الحبل، بحبل السِتار، وستكونين أنت السبب، كان يقول ذلك ويشرع في صنع المشنقة أمامها، وكانت هي تصرخ كالحمقاء، وتحيطه بيديها الصغيرتين: لن أفعل ذلك أبداً، لن أفعل ذلك”.
سوف تتكرر اللقاءات بين الرجلين وإن لم يكونا على وفاق، وعندما يقرر بافيلوفيتش إعادة تجربة الزواج من جديد، ستعاوده المخاوف من غريمه السابق العاشق الأبدي لزوجته الأمر الذي يدفعه في لحظة ما إلى محاولة التخلص منه والقضاء عليه بواسطة شفرة حلاقة خشية منه على حياته الجديدة.
وكأنها المسرح!!
رواية بروح مسرحية ساخرة في الكثير من محاورها إلا أنها و- بعيداً عن أسلوب الترجمة السيئة التي هي اقرب إلى ترجمة إلكترونية – رواية من العمق بحيث يمكن إخضاع كل شخصية من شخصياتها للتحليل النفسي وأن تكون نموذجاً لدراسة سيكولوجية معمقة، وهي طريقة ديستويفسكي، إذ بدقة ووضوح يرسم شخوصه التي بالتأكيد تختلف ما بين رواية وأخرى وضمن الرواية الواحدة، لكنك لا تشعر بالغربة مع أي منها وتألفها فهي في داخل كل منا، شيئاً من هذه أو القليل من تلك الشخصية، وتتميز عنا “أو أنه هو من يجعلها” تمتلك تلك الجرأة والوضوح لتقديم ذاتها عارية من كل زيف وقادرة على قول ما نودّ الجهر به ولا نُقدِمْ على ذلك.
هكذا يشرّح لنا الكاتب صنوفاً من الرجال، “زوج أبدي” مستعبد من زوجته، وآخر قادر على امتلاك المحب لكنه لا يود لأحد أن يمنع عنه حريته، ويفضل الاحتفاظ بلقب “العاشق الأبدي”، ويقدم لنا نماذج لنساء بعضهن يتنقلن كالنحلات بين شجيرات البستان وتقبل أخريات العيش مستعبدات، ولا ترضى بعضهن الآخر إلا أن يكن القابضات بأيديهن على كل شيء، ليخرج الجميع من خلال ديستوفسكي محملين بالخسارات رغم اعتزاز كل منهم بخصوصيته التي تميزه عن الآخر، إذ ها هو فلتشانينوف يغمز من طرف بافيل بافيلوفيتش ويعبر عن شعوره بالاحتقار تجاهه: “إنسان كهذا يولد ويكبر لا لشيء إلا ليتزوج ويصبح مجرد ملحق بزوجته” بينما وبعد سنوات على الخديعة التي عاشها صاحب القبعة السوداء، تلك التي لم يكتشفها إلا بالصدفة بعد وفاة زوجته ومن خلال رسائل عملت على إخفائها بعيداً عنه تكشف واحدة منها عن العلاقة التي ربطت فليتشانينوف بناتاليا والطفلة الصغيرة ليزا، ها هو يقف ضاحكاً من كل ما مر به بطريقة منفرة، وكأنه نكتة عابرة أو طرفة، أو أنه قدر لا قدرة له على رده، فيتقبله ويتعايش معه، وحتى أنه يزدري نفسه ويحقّرها كأنما يعاقبها، عندما يصر على اصطحاب غريمه في زيارته الأولى إلى منزل خطيبة المستقبل، فتتكرر المهزلة من جديد، ويعيش ذات المهانة التي لازمته في حياته السابقة.
بشرى الحكيم