دراساتصحيفة البعث

القدس عربية

إعداد: أ. د. زيدان كفافي
باحث في شؤون الآثار من فلسطين

تقع مدينة القدس فوق أحد جبال القدس وترتفع 740م عن مستوى سطح البحر، وتبعد نحو 40كم إلى الشرق من شاطئ البحر الأبيض المتوسط. واسم المدينة ذو أصول كنعانية ويعني الإله سالم. واسم الإله سالم يتكرّر كثيراً في كتابات رأس شمرة “أوغاريت” من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو واحد من إلهين: Sahar وSalem وهما ذوا حظوة عند أهل البلد، ويوصفان بأنهما إلها الليل والنهار، لكن بعض الدارسين لا يتفقون على هذا الاشتقاق كون الاسم “أورشاليم” ظهر لأول مرة في النصوص المصرية المسمّاة بـ”نصوص اللعن” والمؤرخة للقرن التاسع عشر قبل الميلاد. كما ظهر الاسم على شكل Urusalim في رسائل تل العمارنة المؤرخة للقرن الرابع عشر قبل الميلاد، أي بعدة قرون قبل ظهور النبي موسى عليه السلام.
أثبتت التحريات الأثرية التي أُجريت في القدس أن البدايات الأولى للناس فيها كانت قبل حوالي خمسين ألف عام خلت، وربما أكثر، لكن ورود اسم القدس في النصوص التاريخية المكتوبة وبأشكاله المختلفة كان أول ما ذكر في نصوص اللعن المصرية المؤرخة للفترة بين حوالي 1800- 2000 قبل الميلاد.
وتذكر نصوص اللعنة المصرية أيضاً بعض أسماء حكام القدس منها “يقار- عمَو”، ويرى العالم الانكليزي كنيث كتشن، وهو متخصّص بدراسة اللغات السامية، أن أسماء هؤلاء الحكام هي سامية شمالية غربية، وبالتحديد أمورية، وهم من القبائل التي هاجرت من الجزيرة العربية. ويضيف بأن السبب وراء وجود أكثر من اسم حاكم للمدينة نفسها، حكموا في الوقت نفسه، هو أنه وخلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد كان يحكم على المدينة في كنعان حاكمان بوظيفتين مختلفتين، وعلى النحو الآتي: الأول، يحكم داخل المدينة وله الأمر والنهي بخصوص الأعمال الزراعية، والثاني له السلطة على القبائل الرعوية المنتشرة في المناطق المحيطة بالمدينة. لكن الأمر اختلف في المرحلة اللاحقة، أي في العصر البرونزي المتأخر (حوالي 1550– 1200 قبل الميلاد) حين حكمت المدينة من حاكم واحد فقط. ويؤكد على هذا القول المعلومات الواردة في النصوص المكتوبة المصرية من الفترة نفسها، إذ ورد في رسائل تل العمارنة المؤرخة للقرن الرابع عشر قبل الميلاد اسم مدينة القدس “أورسالم” وحاكمها “عبدي- حبا/ خيبا”.
ولا بد لنا من التذكير بأن مجموعة من الباحثين يرون أن هناك تناقضاً بين ما تذكره المصادر التاريخية المكتوبة وطبيعة موقع القدس وأهلها خلال العصور البرونزية المتوسطة والمتأخرة وبداية العصور الحديدية. فهم يرون أن المكان لم يخرج عن كونه قرية صغيرة، أو مزرعة لأحد الشيوخ في المنطقة، والذي كان تابعاً لحاكم مصري كان مسؤولاً عن المنطقة، إذ أنهم يرون أن نتائج الحفريات لا تعطي صورة واضحة عن مدينة اليبوسيين الذين امتلكوا المدينة قبل هذه الفترة، كما أنها لاتثبت وجود مملكة داود وسليمان في القرن العاشر قبل الميلاد، موضحين أن البقايا الأثرية من القرن العاشر قبل الميلاد، هذا إن وجدت، جاءت قليلة ومبعثرة.
أما عن ذكر اسم القدس في المصادر التاريخية المصرية خلال الألف الأول قبل الميلاد، فلا بد من التنويه بأنه ومع انتهاء الألف الثاني قبل الميلاد انحسرت السيطرة المصرية على بلاد الشام عامة، وظهر في المنطقة مجموعة من الدول بعواصم متعددة. لكن الأمر لم يخلُ من رغبة المصريين بإعادة سيطرتهم على هذه البلاد، لذا نجد أن الفرعون المصري، الليبي الأصل، شيشنق الأول، يقوم في حوالي 925 قبل الميلاد بتجريد حملة عسكرية على فلسطين، وحقّق فيها انتصارات على عدد من مدنها، وسجل أسماء المدن التي غزاها على جدران معبد الكرنك، لكن دون ذكر لاسم مدينة القدس. ويفسّر الباحثون السبب في هذا يعود لاستسلام ملكها “رحبعام” للفرعون المصري فدخلها دون حرب، لذا لم تسجل بين المدن التي حاربها الفرعون. كما يرى آخرون أن السبب ربما يعود إلى أن قائمة المدن التي حاربها شيشنق دمرت في بعض المواضع مما تسبّب في ضياع ومحو أسماء مدن أخرى كانت أصلاً مدونة في القائمة. أما نحن فنعتقد أن السبب كان لأن المدينة لم تكن ذات أهمية سياسية في ذلك الوقت.
ومن نافلة القول، وعلماً أن الآشوريين سيطروا على بلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، إلاّ أن المصادر الآشورية غفلت عن ذكر اسم مدينة القدس، وربما كان السبب في هذا أن مملكة يهوذا كانت خارج اهتمام الآشوريين، وأن عاصمة مملكة يهوذا لم يكن لها دور فاعل في الأحداث المهمّة في منطقة بلاد الشرق الأدنى القديم. وأفضل مثال على هذا أنه حين غزا الآشوريون مملكة “بيت عمري” والتي يسميها الدارسون “مملكة إسرائيل” وحاصروا عاصمتها السامرة قبل أن يدمّروها، لم تتعرض يهوذا وعاصمتها أورشليم لأي أذى. وربما يكون السبب أن ملك يهوذا لم ينضم للحلف الذي تشكّل من بعض ممالك المنطقة لمواجهة الزحف الآشوري على المنطقة. بل نرى أن يهوذا تخضع لمملكة آشور فيما بعد ذلك وتدفع لها الجزية. ولم يدم الأمر طويلاً، إذ أننا نجد أنه وفي مرحلة لاحقة أن ملك يهوذا “حزقيا”، وبتشجيع من مصر، يمتنع عن دفع الجزية متحدياً آشور، مما أدى بالتالي إلى قيامهم بتجريد عدد من الحملات العسكرية، أيام الملوك سرجون الثاني وسنحاريب، بلغت ذروتها في محاصرة القدس عام 701 قبل الميلاد. واضطر أثرها حزقيا إلى معاودة دفع الجزية وإرسال الهدايا لنينوى عاصمة آشور في ذلك الوقت.
بعد وفاة الملك حزقيا تولى الحكم في يهوذا عدد من الملوك، وفي عام 612 قبل الميلاد سقطت نينوى عاصمة مملكة آشور بيد الكلدانيين “الكلديين”. نتج عن هذا الأمر أن يهوذا أصبحت في حيرة من أمرها، هل تستمر في خضوعها لحكام بلاد الرافدين؟ أم تتحالف من جديد مع مصر. ويظهر أن ملكها “صدقيا” قرر التحالف مع مصر، مما أدى إلى تعرض بلاده لحملات عسكرية بابلية. لكن النهاية، نهاية يهوذا، كانت في زمن الملك “يهوياقين” الذي تظاهر بالولاء في بداية حكمه للبابليين، إلاَ أنه تمرد عليهم بعد ذلك مما دفع الملك الكلداني نبوخذنصر أن يدخل القدس في عام 586 قبل الميلاد ويدمرها ويسبي أهلها إلى بابل.

سكان القدس قبل الإسكندر المقدوني:
أكدت النشاطات الأثرية على أن المجموعات البشرية جاءت إلى القدس قبل أكثر من خمسين ألف سنة، ولا يستطيع أي باحث أن يقرّر جنس أو عرق هؤلاء الناس لغياب الشواهد الكتابية بسبب عدم معرفة الناس للكتابة. وينسحب هذا الأمر على جميع عصور ما قبل التاريخ حتى بداية التدوين، ومعرفة الكتابة في كل من بلاد الرافدين ومصر خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد.
ويظهر أنه وخلال المراحل الأولى (حوالي 3500– 3100 ق.م) والثانية (حوالي 3100– 2700 ق.م) من العصر البرونزي المبكر سكنت مجموعات من الناس في كهوف طبيعية قرب عين سلوان عُثر فيها على بقايا أو انفجارية مشابهة لتلك التي عُثر عليها في مواقع معاصرة في كل من فلسطين والأردن. دلتنا المكتشفات الأثرية المكتشفة في القدس، والمؤرخة للألفين الرابع والثالث قبل الميلاد، أنه لا المدينة ولا سكانها لعبوا دوراً فاعلاً في التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، التي حصلت في المنطقة خلال هذه الفترة، وأن أهلها كانوا في بداية الأمر رعاة ثم تحولوا إلى الفلاحة في مرحلة لاحقة اعتمدوا الزراعة وتربية الحيوانات أساساً للمعيشة.
ويظهر أن وضع القدس تغيّر خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد (حوالي 2000– 1550 ق.م)، حيث أصبحت واحدة من مدن فلسطين المحصنة، بدلالة العثور على أسوار أرخها المنقبون لحوالي 1800 قبل الميلاد، إضافة لذكرها في المصادر التاريخية المصرية المؤرخة لهذه الفترة. ويقول إدوارد لبنسكي إن اسم المدينة المذكور في نصوص اللعن “روشاليمم”، وفي رسائل تل العمارنة “أورسالم” هو سامي الأصل، مما يدلّ على أن سكان القدس هم من الساميين. واعتماداً على الدراسة اللغوية لهذا الاسم، ومطابقة أسماء حكام القدس الواردة في نصوص اللعن، مع ما يشابهها في أرشيف ماري “تل الحريري”، ذكر لبنسكي أن سكان القدس خلال الفترة بين حوالي 2000 وحتى 1550 قبل الميلاد هم من الأموريين. واقترح أن مساحة الموقع بلغت نحو 4.4 هكتارات (نحو 44 دونماً) وعدد سكانها تراوح بين حوالي 880 إلى 1100 نسمة.
ويرى كثير من الباحثين أن وضع المدينة خلال المدة بين 1700 وحتى 1200 قبل الميلاد تراجع بدلالة ندرة الآثار المكتشفة في المدينة من هذه الفترة. علماً أن الحفريات الأثرية التي جرت في منطقة دير القديس ستيفان والمدرسة التوراتية الفرنسية في القدس، وفي منطقة تبعد نحو كيلومتر إلى الشمال الغربي من عين ستنا مريم، كشفت النقاب عن بقايا مبنى اعتقد المنقبون أنه معبد مصري الطابع، ويؤرخ للفترة بين حوالي 1300- 1200 قبل الميلاد. ومثل هذا الكشف يدلّ دلالة قاطعة على وجود جالية مصرية بين سكان القدس في تلك الفترة. وبهذا لم تختلف القدس عن بقية المدن الكنعانية في فلسطين خلال الفترة بين حوالي 1550 وحتى 1200 قبل الميلاد، حينما خضعت جميع منطقة جنوبي بلاد الشام للسيطرة الفرعونية، وسكنت فيها جاليات مصرية. كذلك يرى المتخصّصون أن اسم حاكم أورسالم (عبدي– خيبا) الوارد في رسائل تل العمارنة له أصول حورية، حيث إن الكلمة حبَا/خيبا تعني باللغة الحورية “ملك”. وبرأينا أن وجود اسم حوري لا يعني بالضرورة أن سكان المدينة كانوا حوريين، بقدر ما يدلّ على وجود جالية أو أشخاص سكنوا بين السكان الأصليين.
كذلك عثرت بعثة أثرية إيطالية فوق المنحدر الغربي لجبل الزيتون على مدفن عثر بداخله على أوان فخارية وقطع أثرية أخرى بعضها مستورد من قبرص وبلاد اليونان تغطي الفترة الزمنية الممتدة بين حوالي 1700 وحتى 1200 قبل الميلاد. ونسب المنقبون هذا القبر إلى اليبوسيين الذين ذكرتهم التوراة.
واعتماداً على المصادر التاريخية من بلاد الشرق الأدنى القديم، حصل في حوالي 1200 قبل الميلاد تحول جذري ليس فقط في النواحي السياسية والاقتصادية في المنطقة، بل تعداه إلى النواحي الديموغرافية. فحصلت هجرات من مختلف المناطق من وإلى بلاد الشام بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص. وللأسف فإن هذه المصادر تصمت كلياً عن الحديث حول منطقة جنوبي بلاد الشام، فاعتمد بعض الباحثين على التوراة فقط عند حديثهم حول الفترة المؤرخة بين حوالي 1200– 1000 قبل الميلاد. وأما بالنسبة للقدس فيعدّ بعض الباحثين أن ما ورد في سفر يشوع (10: 1- 15) إشارة إلى أن سكانها كانوا أموريين. وتقول القصة إن حرباً اندلعت بين “الإسرائيليين” بقيادة يشوع وخمسة ملوك أموريين منهم ملك القدس المدعو “أدوني صادق”، وكلمة صادق تكون إما صفة أو اسماً وظهرت أيضاً في الكتابات الأمورية.
فنّد الدكتور محمود أبو طالب في مقالة نشرها في العدد الخامس عشر من مجلة “دراسات” الصادر عام 1988م، والتي تصدر عن عمادة البحث العلمي في الجامعة الأردنية، قصة احتلال الملك داود الذي حكم بين عامي 1004 وحتى 965 قبل الميلاد لمدينة أورشليم، ووصفتها التوراة بأنها يبوسية. إذ تذكر الأسفار التوراتية في عدد من المواضع، مثل التكوين 10: 16، و15: 20، كلاً من الاسمين “يبوسي” و”يبوسيين”، وأن اليبوسيين شكلوا قسماً من سكان المنطقة.
ورأى بعض الباحثين أن اليبوسيين ذُكروا في سجلات تل الحريري وأنهم كانوا واحدة من القبائل الأمورية. ولهذا افترضوا أن الاسم يبوسي الذي هو في الأصل أموري، أطلق على القبيلة الأمورية التي سكنت القدس، فأعطت اسمها للمكان أيضاً. بينما رفض باحثون آخرون هذا الرأي، ورأوا أن كلمة يبوس أو يبوسي لم ترد إلا في الأسفار التوراتية، وأن هذا الاسم أُطلق على شخص واحد من سكان القدس فقط، هو “أرونه”، الذي اشترى منه داود البيدر (صموئيل الثاني 24: 16). ويضيفون أن اسم المدينة بقي على الدوام وخلال العصور البرونزية وبداية الحديدية، كما هو ودون تغيير، أورسالم، وأن تغيير الاسم في الأسفار التوراتية إلى يبوس لم يكن إلاَ لأغراض دعائية. ويوافق هذا الرأي محمود أبو طالب الذي يقول “وليس هناك سوى شك يسير في أن اسم المكان، يبوس، إنما هو ابتداع متأخر، ناشئ عن اعتقاد المحررين المتأخرين للعهد القديم بأن الاسم أورشليم (يروشالايم) اسم مقدس، جاء به العبرانيون أنفسهم. فاشتق المحررون اسم يبوس من اسم اليبوسيين، القبيلة التي سكنت أورشليم وسادتها قبل احتلال داود لها، وعدّوا يبوس الاسم الوثني لأورشليم”. ويفضّل أبو طالب عدم الخوض في أصل اليبوسيين الإثني طالما أن الشواهد عليهم لا زالت محدودة، وأن أورشليم لم تكن إلاَ التلة الجنوبية الشرقية والتي يطلق عليها اسم “الظهوره” وأنها لم تكن مسوّرة. وعلى أية حال، فإن الحفريات الأثرية التي أُجريت في هذا المكان لم تكشف النقاب عن أية آثار تدمير نتيجة لاحتلال ولا على تغيّر في طبيعة سكناها وسكانها. وحتى الأسفار التوراتية لم تذكر أن داود قد أفرغ المدينة من سكانها الأصليين بعد احتلاله لها.
والسؤال المطروح: من هم سكان القدس قبل اتخاذها عاصمة لداود؟ القدس جزء من بلاد الشام، ولا تخرج عن كونها إحدى المدن الكنعانية- الأمورية التي سيطرت على جميع البلاد خلال العصور البرونزية. ومن المعلوم أن طبيعة بلاد الشام السياسية تشكلت خلال الفترة بين حوالي 2000–1200 قبل الميلاد، أي قبل ظهور الديانة اليهودية من مجموعة من دول- المدن (الدولة-المدينة) والقرى الأمورية- الكنعانية، وانتشرت فوق جميع مناطق شرقي البحر الأبيض المتوسط. وإذا أخذنا بما ورد في النصوص التوراتية بخصوص من كان في القدس قبل احتلالها من قبل الملك داود، فهي لا تنكر وجود اليبوسيين فيها، وهم مجموعة من أبناء المنطقة المحليين.
حصل في حوالي 1200 قبل الميلاد تغيّر شامل في بلاد الشرق الأدنى القديم، إذ سقطت الإمبراطوريات الكبيرة (وادي النيل، وبلاد الرافدين، وبلاد الأناضول)، مما أتاح الفرصة لظهور مجموعة من الممالك والمشيخات في بلاد الشام. إضافة للممالك الآرامية، كان هناك الفنيقيون، والعمونيون، والمؤآبيون، والأدوميون، ومملكة “إسرائيل” العربية (حيث إن اليهود الأوائل هم من أبناء المنطقة العربية)، ودولة شعوب البحر (البلست). وهم جميعاً من أبناء البلاد، وليسوا دخلاء عليها. وبرأينا، فإن دولة “إسرائيل” الأولى، هي دولة أسسها قسم من سكان جنوبي بلاد الشام، الذين آمنوا برسالة موسى، عليه السلام، بعد خروجه مع رهط قليل من أتباعه من مصر ودخولهم سلمياً إلى فلسطين، وهم في الأصل من أهل البلاد المحليين. ومع مرور الأيام استطاع هؤلاء استقطاب بعض سكان فلسطين للديانة الموسوية، فأصبحوا على مرّ الأيام أصحاب شأن، واستطاعوا مقارعة المدن الكنعانية الفلسطينية، وشعوب البحر الذين استقروا في منطقة غزة وعسقلان. وبعد إحساسهم بالخطر الذي يهدّدهم من الدول المحيطة بفلسطين، خاصة بعد قيام الدول الآرامية، قرروا جمع شمل قبائلهم الفلسطينية اليهودية الديانة تحت إمرة الملك شاؤول. لكن هذا لم يحكم طويلاً، إذ تبعه الملك داود الذي يعدّ المؤسّس الحقيقي لدولة “إسرائيل” العربية، ومن ثم تبعه ابنه سليمان. واستطاع هؤلاء العرب اليهود أن يؤسّسوا دولة قوية لم تعمّر أكثر من سبعين عاماً، انقسمت بعدها إلى دولتين، وذكر بعض ملوكهما، والأحداث التي مرت عليهما في السجلات التاريخية المهمّة، مثل الآشورية ومسلة الملك الموآبي ميشع.
ونحن هنا لا نرى أي رابط يربط العبرانيين و”الإسرائيليين” العرب الأوائل، وصهاينة هذه الأيام. فالأوائل هم أبناء هذه المنطقة من سلالة النبي إبراهيم، آمن بعض منهم لاحقاً برسالة موسى عليه السلام، ولا خلاف بيننا وبينهم إلاّ في الديانة (علماً أنها سماوية أيضاً). أما صهاينة العصر الحديث، فلا يجمعهم سوى العقيدة الدينية، فهم من أعراق وأجناس متعددة، لم يضمهم مكان واحد في يوم من الأيام، ولا يربطنا بهم أي رابط. وعلى هذا الأساس، فإن ما أوردناه من معلومات في هذه المقالة يجب ألا يُربط بأي حال من الأحوال بدولة “إسرائيل” العنصرية الصهيونية الحديثة، ولكن يجب أن يعدّ حلقة من حلقات تاريخ بلادنا العربية، وللعرب فيه إن لم يكن كل الحصة، فإنما السهم الأكبر.
خاتمة القول: أثبتت نتائج الحفريات الأثرية، كما دلّت النصوص والوثائق التاريخية المكتوبة، أن مدينة القدس لم تخرج عن كونها إحدى المدن الأمورية- الكنعانية، أسسها وحكمها أمراء وملوك محليون، اتبعوا ديانات، ومللاً، ونحلاً اختلفت عبر العصور، كما تعرضت القدس للاحتلال والتحرير أكثر من مرة. لكننا نعزي أنفسنا بالقول: إنه وفي نهاية كل نفق مظلم بصيص من النور.