التحكيم القضائي قضاء اقتصادي
لعقود مضت، كان وجهاء المجتمع على اختلاف ألقابهم وتسمياتهم هم المعنيون بحلّ نزاعات مجتمعاتهم، خياراً لهم واختياراً منهم، والقليل المستعصي منها كان يصل إلى القاضي المتفق عليه شعبياً، والذي كانت معظم أحكامه نافذة شفهياً ومأخوذ بها عملياً، وبعض التنظيمات الشعبية والنقابية والأهلية، مارست هذا الدور في بداياتها، ولكن المؤسف أن دور الوجهاء والمنظمات اضمحل ويتلاشى تدريجياً، فهو قاصر أو مقصّر، غائب أو مغيّب، رغم وجوب تناميه لأهمية فاعليته، خاصة وأنه يندر أن نجد فرداً لا ينضوي في منظمة معيّنة، من المتوجب أن تكون معنية في حل الكثير من خلافات أعضائها.
لقد أسفر التطور الاقتصادي والاجتماعي عن كثير من الخلافات التي اقتضت تشكيل العديد من المحاكم التي انضوت تحت وزارة مختصة، مع فارق سلبي كبير، تجلّى بأن حكم القضية الذي كان يستغرق أياماً قليلة، وربما ساعات أو دقائق، بين يدي وجيه المجتمع أو المنظمة أو القاضي الواحد، أصبح يستغرق سنوات وربما عقود، أمام محكمة تضم العديد من العاملين بل ومحاكم لاحقة، رغم وجود محامين في أغلب القضايا المنظورة، ما جعل المحاكم تغصّ بآلاف الدعاوى، المتخمة أضابيرها بكثير من الأوراق التي لم يقرأها القاضي، ويرحلها من موعد لآخر، بل ومن قاضٍ لآخر، ولسنين متتالية، ما أرهق المتخاصمين اقتصادياً لدرجة كبيرة، والمؤسف أن القرار الرسمي الأخيـر، الذي ألزم أطراف الدعوى بتوكيل محامين عنهم، انطلاقـاً من تشاركية العدالة بجناحيها معـاً (القضاة والمحامين) لم يسفر عن الحدّ من تراكم الدعاوى وإطالة زمن التقاضي، بل كثيراً ما يسارع أحد الجناحين للإمساك بالرجل التي من جهته، لمنع حمامة العدالة من الطيران، باعتماد المزيد من الدفوع والردود والكشوف والخبرات والتأجيل، ما جعل الكثير من أصحاب الحقوق يقولون إن التخلي عن الحق أكثر مردودية من المطالبة به، فالعدالة تشكو من جناحيها معاً، ولا حرج في ذلك، فهذا مجمعٌ عليه ومشكُوٌ منه، رسمياً باعتراف وزارة العدل، وشعبياً باشمئزاز المتخاصمين، رغم تتابع تشكيل المزيد من المحاكم وتعيين المزيد من القضاة، مركزياً ومناطقياً.
لقد تحسّست السلطات المعنية هذا الواقع المرير، ولكن كثيراً ما تعالج تحسسها عبر الحك المتتابع، الذي يزيد من التحسس، فعشر سنوات مضت، على صدور قانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008، والذي ينصّ على أن التحكيم أسلوب اتفاقي قانوني مكتوب لحل النزاع بدلاً من القضاء، سواء أكانت الجهة التي ستتولى إجراءات التحكيم بمقتضى اتفاق الطرفين، منظمة أم مركزاً دائماً للتحكيم، أو لم تكن كذلك، ما يضمن للمتخاصمين السرعة في إصدار الحكم الأكثر مصلحة لهم به، وعلى الأثر سارع العديد من المحامين لتشكيل مراكز تحكيم في العديد من المحافظات السورية، وفق الإجراءات القانونية الواجبة الاتباع، ونشطت في إقامة العديد من الندوات والدورات التدريبية في هذا الميدان، ولكن معظمها يشكو من ندرة القضايا المحالة له.
فلمراكز التحكيم المحدثة قانونياً دور كبير في الحل السريع والعادل، والموفر اقتصادياً لكثير من القضايا المنظورة أمام المحاكم، ما يوجب على طرفي العدالة (القضاة والمحامين) إحالة عشرات الدعاوى –وخاصة المستعصية منها– للنظر فيها عبر مراكز التحكيم، وتشجيع المتخاصمين على ذلك، خاصة وأن مركز التحكيم يوفر لأطراف النزاع حرية اختيار محكميهم، وتعيين هيئة تحكيمية محايدة، ما يجعل احتمال التحيّز الفعلي أو الضمني لأحد أطراف النزاع غير وارد. ويتمتّع المركز بكامل الحياد في ممارسة نشاطه وأداء مهامه، ويبحث الخلاف برضى الأطراف المتنازعة، ولا يخضع لأي جهة عامة أو خاصة، إلا في مجال الرقابة على أعماله من وزارة العدل، والقرار التحكيمي الصادر عنه، يصدر مبرماً ونهائياً، وغير خاضع لأي من طرق الطعن، فهو يتمتّع بحجية مطلقة، ويتصف بصفة الإلزام والنفاذ محلياً ودولياً، عملاً بما ينصّ عليه قانون التحكيم السوري.
إن تنشيط عمل مراكز التحكيم حاجة اقتصادية وطنية ومواطنية، وهي بمثابة قضاء خاص بديل عن القضاء العادي الرسمي، وتستمد وجودها وقوة قراراتها من نص قانون التحكيم السوري، علماً أن تنشيط مراكز التحكيم الرسمية العلاجية المأجورة يوجب بالتوازي معه تنشيط مراكز التحكيم الشعبية الوقائية المجانية المعهودة، والتي تعالج الكثير من الخلافات قبل وصولها إلى ردهات المحاكم، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج، ومن المعروف أن بعض التجمعات السكانية خالية من أي دعاوى قضائية بين مواطنيها نظراً لبروز الدور التحكيمي الشعبي الرضائي، والإصلاحي.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية