عرض حال ثقافي
“إذا أوقفنا المسارح ودور السينما وما نقدمه للثقافة عموما، فلماذا نحارب” هذا ما رد به “ونستون تشرشل”-1874-1965-رئيس وزراء بريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولندن تُقصف بأعتى القذائف الألمانية، التي سوت مدينة الضباب بالأرض، عندما سأله احد الصحفيين: “لماذا لا توقفون الصرف على هذه الكماليات كالشأن الثقافي، ليكون إنفاقكم على الحرب أكثر باعتبارنا في حرب؟” “تشرشل” الرجل الذي يُعرف عنه حبه للقراءة وولعه بالشعر، يدرك بالتأكيد أن إيقاف الحياة الثقافية في البلاد، يعني إيقاف الحياة نفسها، فكرة لم نبتعد عنها اقصد كسوريين في مقاربتنا لمفهومها بما يخص الشأن الثقافي خلال الحرب، التي تبقى فيها الحياة الثقافية في البلاد مستمرة، بل وأكثر من ذي قبل، هذا الاستمرار وحده يجعلنا نفهم أنه بالتأكيد ليس زمن الحروب بالحجة الوجيهة أبدا أو المناسبة، في كونها تؤثر على مناحي الحياة العامة وتشلّها، حتى أن العديد من مفاصل هذه الحجة قد تكلس لكثرة استخدامه، فالعادة درجت مثلا أن يتدهور الوضع المعيشي في الحروب، وهذا مفهوم، كذلك الوضع الإنساني، الذي تساور العديد من كبار الفلاسفة الشكوك، حول أولويات تدهور هذا الوضع، في الوقت الذي يتطلب اللحُمة، والشعور بالآخر، شريكك في الوطن وإن لم يكن فشريكك في البشرية، وتذهب العديد من الدراسات الفلسفية والاجتماعية إلى الإلقاء باللوم على الحرب نفسها “أهدافها، سببها، مدتها، جدواها، أنواعها”، إذا يمكن فهم التدهور لمختلف المناحي الحياتية التي تصيب مجتمعا ما يخوض حربا، لكن ما لا يمكن فهمه، وأيضا حسب فلسفة الحياة والشعوب والتجارب البشرية، وما وصلنا من كبار الكتّاب والفلاسفة والمفكرين، بأن الفعل الثقافي عادة يزدهر في الحرب ويتجوهر معناه الفكري، مع ظهور أكثر حداثوية، للعديد من الأشكال الفنية التي هي من ضمن ما يصنع الثقافة عموما، كما الواقعية الإيطالية في السينما مثلا، أو المدارس الفنية التي ظهرت سواء في المسرح أو الشعر والفلسفة بعد الحرب العالمية الأولى، وما أصابنا من “المدارس” الفنية الجديدة التي وصلتنا بعد الحرب العالمية التالية، وتكاد ثقافتها حتى اللحظة تطيح بفكرنا، اقصد كعرب وأصحاب لغة واحدة، كل على حدا؛ لذا لا يمكن التعويل على الحرب ووحشيتها في تبرير الانحدار الثقافي في مجتمع يدعي أنه صاحب ثقافة خلاقة أساسا هو وريث لحضارة عمرها آلاف السنين، الانحدار الذي يُجمع تقريبا عليه كل السوريون، فهم شبه متأكدين من أن الحالة الثقافية في البلاد في أصعب حالاتها واشدها حرجا، الواقع الدرامي بأنواعه والمراكز الثقافية ودور النشر التي لا مانع لديها من طباعة أي “كتاب” وتحت أي مسمى “شعر، فلسفة، ترجمة، قصة، رواية” ودون أن تكون المشكلة إن كان المضمون جيدا أم لا، تقول ذلك،دور السينما الفارغة إلا من يوم الافتتاح وتوجيه الدعوات المجانية، تقول ذلك، المسارح التي تحتاج إلى إعادة ترميم بين الحين والآخر بهذا الفنان أو ذاك، يقول ذلك، طبيعة الخطاب الثقافي نفسه اليوم يقول ذلك وصراحة.
أمام هذا التردي كان لا بد من الدخول إلى واقع الحال، وإجراء مقارنة بين العديد من وجهات النظر، التي لها رأيها الموجود على الأرض في الموضوع، وإذا افترضنا أن مفهوم التردي الثقافي حالة قائمة بسبب الحرب، فكيف يمكن التصدي لها وفق هذه الآراء، التي كما قلنا، صارت واضحة في المشهد العام؟.
أمام ها السؤال يمكن مقاربة بعض المواقف الأبرز على الساحة، فالبعض يرى أن مجرد الاستمرار بتقديم مفردات المشهد الثقافي، بشكلها الخارجي المبهرج، هو الأكثر جدوى، في تصدير صورة مشرقة عن الواقع، كنوع من الدعاية المضادة، ويبدو أن تيارا كاملا يتبنى هذا الخيار، ويعتبره صحيحا، من هذا التيار من هو على يقين من ذلك- أي بتصدير انتصار الحياة على الحرب ولو بالشكل والدعاية- ويعمل بضمير لتحقيق ذلك، ومن التيار ذاته، من لا يعنيه الموضوع برمته، بقدر تحقيق منفعته الشخصية، طالما أن الحابل مختلط بالنابل، وما من جدوى من إجراء أي فرز على أساس علمي، بين المدعي والصادق، بين المثقف والمتثاقف، بين من يعلم، ومن لا يعلم، والأمثلة التي مرت علينا كثيرة، وهي في تزايد مستمر.
أيضا هناك من يرى أن حالة التردي الثقافي هذه، ليست جديدة على المجتمع، ولو كانت متأصلة فيه، لما جرى ما جرى، خصوصا بين السوريين أنفسهم، كما أنه يرى أيضا أن الفعل القائم على تقديم الشكل المبهرج للحالة الثقافية في البلاد، هو يضرها بل أنه مكشوف أساسا لدى من يحاربك، وهو يسبقك بخطوات فيه، أقلها في إعلامه “الأخطبوطي”، وأذرعه الطويلة، وبالتالي يجب العمل على استراتيجية مختلفة، أساسها تقديم مضمون جيد، لا شكلا مبهرجا.
بين التيارين ظهرت العديد من الأصوات المنفردة، أو الأصوات التي انكفأت، والتي جزء منها للأسف، فضّل أن يصمت، منتظرا حقيقة انكشاف المشهد العام للحرب، كما في القصة التي قرأناها على مقاعد الدراسة، عن الحرب التي تقع بين عصافير السنونو والأفعى التي تزحف لتأكل الفراخ، وعن القط الانتهازي الذي ينتظر الخاسر منهما، ليلتهمه؛ هناك أيضا من الأصوات المنفردة التي لم تصمت، والتي تتكئ على قناعات راسخة مصدرها محيطها الاجتماعي ومقارناتها الفعلية والعقلية، من يرى أن الفساد هو المسؤول الأول عن تدهور هذا الوضع، فمن غير المعقول مثلا أن يكون من لا يعرف ألف باء الكتابة، هو الكاتب الذي تعتمد عليه تلك المؤسسة العامة في رفع لوائها، ومن غير المقبول وجود ألوف مؤلفة من الكتب التي لا قيمة فكرية حقيقية لها، من دواوين شعرية رثة، إلى دراسات وترجمات ضعيفة، وأيضا من مواضيع يطرحها الإعلام عموما –التلفزيوني بشكل خاص- لا تلتفت للجانب النقدي الجاد، بينما تعتمد كليا على كل ما يعزز مفهوم أصحاب نظرية “تصدير البهرجة”.
ولكن ما المشهد الذي إذا ما تكشف هذا الدخان وانجلت تلك القعقعة عنه يمكن رؤيته؟.
يكاد يكون عدد الاحتفاليات التي تندرج تحت معنى “ثقافية” التي أُقيمت في سنين الحرب، يفوق كل ما يُقام في العديد من بلدان العالم مجتمعة؛ احتفاليات من كافة الأنواع، منها ما هو بسبب ومنها لا معنى له، وربما لم تشارك فعاليات فنية محلية في مهرجانات _أيضا تندرج تحت مسمى “ثقافة”-كما شاركت أيضا خلال نفس الزمن، إذا في المشهد العام، هناك نشاط ثقافي محموم لا يكاد يهدأ، أفلام، كتب، مسرحيات، أماسٍ شعرية وقصصية وغنائية، حفلات فنية متنوعة، وفيها من كل الألوان، لمعان لأسماء لا مضمون حقيقي لفعلها، وخفوت لأسماء أخرى، وصمت مطبق حسب المنفعة من أصوات، كنا وصفناها في مثال “حرب السنونو”، والحرب التي تُخاض على الجبهات، يُخاض ما هو أدق رقبة منها في تلك المؤسسة أو تلك الوزارة، هذا هو المشهد العام على تلك الحصة، أو ذاك الكرسي، عدا عن اختراقات فردية بسيطة، تحصل هنا أو هناك، نعم يوجد هذا، لكن مفهوم الثقافة ومعناها الفعلي، ووجود دور فعّال ومؤثر للمثقف الحق، هو في حالة ثُبات وجودي اليوم.
تساءل أحد الصحفيين السوريين على صفحته عن دور “الانتلجنسيا” -النخبة المثقفة”مستغربا صمتهم أمام ويلات وكوارث تجري على قدم وساق، فجاءه جواب من أحد المتابعين، بأن لو سمحت دلنا عليهم، أين يمكن أن نجد هذه “الانتلجنسيا؟”، خاتما تعقيبه بكونهم أشباح لا ظلال لها.
تمام علي بركات